بيان يتبعه بيان.. النتيجة بيان آخر!

د. أحمد ديركي:

إصدار البيانات ليست بالأمر المستحدث في عالم السياسية، وبخاصة عند صدوره من جهة سياسية رسمية، كحزب أو حركة سياسية وأعلى درجات التنظيم السياسية السلطة السياسية الحاكمة في بلد ما.

عند صدور البيان من هذه الجهات السياسية يعتبر تعبيراً صريحاً عن التوجهات السياسية لمصدره، ويحاسب مُصدر البيان على بيانه عند عدم انطباق مضمون البيان مع فعل مُصدره. وهذا أمر متعارف عليه، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضاً على المستوى الاجتماعي وطبيعة العلاقات القائمة في هذا المجتمع. فالقول يجب أن يتطابق مع الفعل، وإلا نُعت عدم التطابق بالكذب. والكذب صفة مذمومة في كل المجتمعات البشرية، فكيف الحال إن كان الكذب مفخرة؟!

بينما الكذب على المستوى السياسي خيانة يستحق مرتكبها الإعدام. فالخيانة هنا لا تطول علاقات بعض الأفراد في ما بينهم، بل تطول مصير شعب، بما تحمله هذه الكلمة من أبعاد ومعان، بأكمله. ويبدو أن البيانات (السياسية) الرسمية الصادرة عن كثير من الأنظمة السياسية القائمة والمنظمات الدولية والأممية وتفرعاتها تتضمن فعل الكذب أكثر مما تتضمن القيام بعمل من أجل تطبيق ما تتضمنه هذه البيانات. فكم من بيان صدر من هذه الهيئات الدولية، والأممية وتفرعاتها ولم ينفذ منه حرف واحد، بل ينفذ العكس! وما دام التنفيذ، أو الامتناع عن التنفيذ، لا يتطابق مع مضمون البيان فهذا كذب على أعلى المستويات، والكذب على مستويات كهذه خيانة. والأمر نفسه ينطبق على الأنظمة السياسية، كالبيانات الصادرة عن وزارات الخارجية بكونها الناطق الرسمي للنظام بما يتعلق بالشؤون الخارجية، وكذلك خطب من يقبعون على رأس الهرم السياسي.

نصيحة لهؤلاء جميعاً، أقلِعوا عن فعل الخيانة وبخاصة في بياناتكم الرسمية لأنها تستهلك وقتاً، ومكاناً أكثر للأرشفة، وتضر بالبيئة… ومع كل بيان تثبت خيانتكم أكثر وأكثر.

مقابل هذه البيانات المؤكدة للخيانة، هناك قليل من البيانات وكثير من الأفعال! لم تكثر البيانات وتقل الأفعال، فلنفعل ما نريد ومن ثم نصدر بياناً موجزاً نضع فيه ما نشاء ما دام مصدرو البيانات الكثيرة لا يفعلون سوى إصدار البيانات!

يبدو أن هذه الظاهرة متسيدة على مستوى الأحداث، وبخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وجرائم الكيان الصهيوني ضد شعب فلسطين، والقضية الفلسطينية، ولبنان ومقاومته.

حتى الصمت عمّا يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم بحق الإنسان تعبير عن دعم لهذا الكيان بطريقة مباشرة. ويبدو أن الصمت عن الإدانة أصبح من أكبر عوامل دعم الكيان الصهيوني لاستكمال ارتكاب جرائمه. فيتضافر الصمت مع البيانات الخيانية، لأنها مجرد نصوص مكتوبة بلا أفعال تقترن بما هو مكتوب، في دعم الكيان الصهيوني.

صمت وبيانات خيانية دفعت بالكيان لاستكمال احتلال فلسطين، وأراضٍ عربية أخرى، وارتكاب أبشع مجازر بتاريخ البشرية. استكمال احتلال فلسطين، وأراضٍ عربية أخرى، وارتكاب أبشع مجازر بتاريخ البشرية، بحاجة إلى دعم أكبر من الصمت والبيانات الخيانية. فهو بحاجة أيضاً إلى دعم مالي وعسكري. فكان الدعم عبر الجسر المالي من الخليج العربي للكيان الصهيوني، وجسر العتاد العسكري من أمريكا والدول الأوربية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استكمل الدعم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، فاكتملت حلقة الدعم عنده، وها هو ذا يستكمل مشروعه العنصري الاستعماري. كل هذا الدعم له لأن العنصرية والاستعمار من بنية نمط الإنتاج الرأسمالي. فاستحق هذا الدعم بكونه مثلاً عملانياً واضحاً لنمط الإنتاج الرأسمالي. فهذا النمط الإنتاجي يقوم على استغلال الطبقة العاملة وشعوب العالم المضطهدة! وها هو ذا الكيان الصهيوني يترجم طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي. وكل من يقاوم هذا النمط أينما وُجد فإن تهمة الإرهاب جاهزة لتلصق به من كل الجهات، بداية من الأمم المتحدة وتفرعاتها، وصولاً إلى الأنظمة السياسية.

والأدلة على هذا لا تُعدّ ولا تحصى.

على الرغم من كل الدعم المحلي (بمعنى الخونة في داخل بلد ما)، والعربي، والإقليمي، والدولي، والمنظماتي للكيان الصهيوني، الممثل الفاضح لوحشية نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن شعوب المنطقة لم تستسلم.

عملت معظم الأنظمة العربية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على إزالة ذكر مجازر الكيان منذ نشوئه، ومنها مثلاً مجزرة دير ياسين. مجزرة لا تذكر ولا في أي كتاب تاريخ في الدول العربية!

وفي التاريخ القريب، قام الكيان الصهيوني باجتياح بيروت عام 1982 وبالدعم المعهود فوصل إلى بيروت. وكان هذا أول اجتياح، بضوء أخضر من كل داعميه، لعاصمة دولة عربية. فتتالت البيانات الخيانية. لكن جبهة المقاومة الوطنية (جمول) قاومته وهزمته من دون قيد أو شرط. هزمته لأنها مقاومة مستقلة تحمل فكراً شيوعياً تحررياً، يربط التغيير بالتحرير، وطردته من معظم الأراضي اللبنانية.

عاد الدعم لهذا الكيان واستمر وتعاظم، فكان اجتياحه لغزة عام 2006. أيضاً تتالت بيانات الخيانة الداعمة له. ما حصل في غزة حينها جريمة بحق الشعب الفلسطيني، ولا من حسيب لمرتكب هذه الجرائم سوى البيانات الخيانية. وهذا مثال فاضح لجرائمه في حينها:

وصف منسق الأعمال الإنسانية لمنظمة الأمم المتحدة جون هولمز الحصيلة البشرية لعملية (الرصاص المسكوب)، الاسم الذي أطلقه الكيان على عملية اجتياح غزة، بأنها (مقزّزة جداً). فقد سقط بهذه العملية 1330 شهيداً، بينهم 437 طفلاً، و110 نساء، و123 مسنّاً، و4500 جريح معظمهم تسببت جراحه بإعاقة دائمة له أو لها. ودمر 5000 بيت بالكامل، وتضررت 22000 وحدة سكنية، وقدرت الخسائر بـ 466 مليون دولار. كما استخدم الكيان الصهيوني خلال اجتياحه غزة أسلحة محرمة دولياً، مثل القنابل الانشطارية، والقنابل الفسفورية، والفسفور مثل النابلم، يتسبب بحروق خطيرة في الأنسجة تصل إلى العظم وتنتشر تحت الجلد وتستمر بالاحتراق حتى ينقطع عنها الأكسجين. وتأكيداً لفعلته هذه تقول دوناتيلا روفيرا، رئيسة بعثة العفو الدولية: أن القنابل الفسفورية (استعملت بكثافة في غزة، في أماكن مكتظة جداً بالسكان، بواسطة قذائف مدفعية أي بطريقة قليلة الدقة). كما اكتشف الأطباء داخل مستشفى القدس الذي تعرض للقصف جزيئات كثيرة من الفوسفات ما تزال ناشطة. وفي مستشفى الشفاء يقول الدكتور عبد خويدمي، من الهلال الأحمر الجزائري: (… كنا نعاين مذهولين أن جرحاً يعتبر خفيفاً يظل ينهش لحم الضحية بعد معالجته بوقت طويل).

كما استعملت ضد سكان غزة أسلحة محرمة أخرى (السهام الصغيرة). التي هي إبر دقيقة طولها أربعة سنتمترات تنتشر في الهواء بعد انفجار القنبلة على مساحة طولها 300 متر وعرضها 100 متر. تحتوي كل قنبلة على عدد يتراوح بين 5000 و8000 سهم صغير. واستخدم جيش الكيان أسلحة أخرى محرمة دولية فكانت غزة بمثابة مختبر لهذه الاسلحة. ووفقاً لشهادات أطباء غربيين كانوا في مستشفيات غزة يقولون: (شاهدنا ضحايا ولدينا كل الأسباب لاعتبار إصابتها ناجمة عن الطراز الجديد من أسلحة يختبرها العسكريون الأمريكيون تعرف باسم المختزل. تتألف هذه القنبلة من كرات صغيرة كربونية تحتوي على مزيج من التونغستن والكوبالت والنيكل أو الحديد. تحوز طاقة انفجارية ضخمة، لكنها تتبدد بعد مسافة عشرة أمتار. إذا أصابت جسد الإنسان من مسافة مترين قطعته قطعتين، وإذا أصابته من مسافة ثمانية أمتار، قطعت ساقيه وأحرقتها كما لو كان ذلك بواسطة آلاف الأبر. لم نشاهد الجثث المقطعة، لكننا رأينا كثيراً من الجثث المبتورة. كما هناك حالات مماثلة في جنوب لبنان سنة 2006، ورأينا مثلها في غزة خلال تلك السنة، إبان العملية الإسرائيلية (المطر الصيفي). إن فاعليتها رهيبة إذا استهدفت الإنسان نظراً إلى انتشار آلاف الشظايا المجهرية، الجراح التي تسببها شبه مستعصية وتؤدي عموماً إلى البتر. يضاف إلى ذلك أن مفعولها المسبب للسرطان أمر أكيد…).

ها هو ذا الكيان الصهيوني اليوم، بالدعم عينه، جسر مالي خليجي، جسر عتاد عسكري أمريكي أوربي، صمت يصمّ الآذان، بيانات خيانية، يعاود فعلته الإجرامية. ها نخن أولاء اليوم على باب مرور سنة على طوفان الأقصى والكيان الصهيوني يستكمل مسيرته الإجرامية الموثقة عالمياً. فمنذ أيام قليلة، إضافة إلى مجازره اليومية في غزة ضد الأطفال والنساء والمسنيين، واستخدامه الأسلحة الأمريكية المحرمة دولياً، يرتكب هذا الكيان وبمساعدة شركات تصنيع عالمية، هذه المرة، مجزرة جديدة بحق الشعب اللبناني من خلال تفجيره (البيجر) وأجهزة لا سلكية أخرى. وهي أجهزة يستخدمها المدني أيضاً. فماذا حدث؟ مجدداً بيانات خيانية استنكارية!

من مجزرة دير ياسين، إلى اجتياح بيروت وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، إلى اجتياحه غزة 2006، ومعاودة اجتياحها 2024 لا نسمع سوى بيانات خيانية تصدر من هنا أو هناك من أنظمة سياسية ومنظمات دولية وأممية. بيانات بلا فاعلية ولا أفعال مرافقة لها، وبهذا تصبح أكثر دعماً للكيان الصهيوني.

الفاعل الوحيد لهزم هذا الكيان وإلغائه من الوجود، نعم إلغائه من الوجود هو وداعميه، لا يمكن أن يتحقق إلا بمقاومة تحمل فكراً تحرّرياً شيوعياً لا تساوم ولا تفاوض، وتملك مشروعاً بديلاً يتحقق من خلاله السلام الحقيقي لا السلام الوهمي.

نعم لكل مقاوم وكل مقاومة للكيان الصهيوني وداعميه أينما وُجدوا ومهما كانت جنسياتهم أو مراكزهم أو خلفياتهم الفكرية. تحية لهم فهم يقومون بالفعل المقاوم ليس عن فلسطين فقط، بل عن شعوب المنطقة. الآن وقت المقاومة أولاً لدحر هذا الكيان وداعميه، بكل تسمياتهم وصفاتهم. فهزيمتهم هي المهمة الأولى ولا يمكن فصل مقاومة الكيان عن مقاومة داعميه، فهو موجود بدعمهم.

العدد 1140 - 22/01/2025