السودان يحتضر.. يا وجعنا!

د. نهلة الخطيب:

كما لو أننا لسنا من الدول الرثّة والشعوب الرثّة، بتفكّكنا القبلي والطائفي والأخلاقي، خُيّل للبعض أن الآمال سوف تتحقق في خروج الشعب السوداني من غياهب عقود من الاستبداد والصراع الداخلي والعزلة الاقتصادية التي عانى منها السودان في عهد عمر البشير ومن حكموا السودان قبله، وفي تشكيل دولة مدنية ديمقراطية وخاصة بعد توقيع الاتفاق الإطاري عام 2022، ولكن، على الأرض، بدأت تطبّق سيناريوهات أخرى متجاهلة التحول الديمقراطي وضرورة تسليم الحكم للمدنيين، بدأها الجيش بالمحافظة على النظام السابق مع تغيرات طفيفة لحماية النفوذ والثروة، وبدأ الصدام بين الجيش وميليشيات قوات الدعم السريع، الذين يعتقدون أنهم نخبة النخبة، وما فعله البشير، بتشكيلهم كجيشٍ موازٍ غير تابع، أنه خلق انشطاراً في العقيدة العسكرية السودانية.

 

صراع على السلطة

الأزمة في السودان صراعٌ عسكري على السلطة، وهناك أطراف سياسية وعسكرية كانت وراء قرار الحرب، دفعت الجيش لإطلاق الشرارة الأولى 15/4/ 2023، بحسابات خاطئة ظانّةً أنها تستطيع إنهاء الحرب لصالحها في فترة قصيرة، ولكن الطرف الآخر كان مستعدّاً لمواجهة لم تقف عند حدود الدفاع عن النفس، بل سيطر على مواقع استراتيجية، وهذا ما حقّقه في الأيام الأولى للحرب، واستمرت الحرب بين مدٍّ وجزر لشهور طويلة، ومرّت بمراحل مختلفة تضمنت مواجهات وقتلاً، وهم يتحملون تداعيات هذه العقيدة الانتهازية، بعد دخول الحرب عامها الثاني.

 

مأساة إنسانية  

المواجهة المفتوحة في طول البلاد وعرضها خلّفت أوضاعاً مأساوية وأرقاماً مفزعة لمأساة إنسانية: (30 ألف قتيل، 70 ألف جريح، 12 مليون مشرد، وما يقارب ربع مليون طفل وامرأة مهددين بالموت جوعاً، 80 % من المرافق الصحية خارج الخدمة).

وكما في كل حرب فإن النزوح بدا مشهداً يومياً سواء داخلياً أو خارجياً، والوضع ينذر بمزيد من الكوارث على المستوى الإنساني: انتهاكات، وجرائم حرب، خطف، واغتصاب، وتمييز عرقي وإيديولوجي، فضلاً عن الانهيار الاقتصادي والتضخم وارتفاع معدل البطالة وتدمير البنية التحتية، واستمرار الحرب يوفر غطاء لهذه الجرائم والانتهاكات، ولإيقافها يجب إيقاف الحرب أولاً.

 

السودان.. موقع استراتيجي وثروات هائلة

ولطالما اجتذب موقع السودان الاستراتيجي وموقعه الإفريقي المتميز، وباعتباره ورقة مهمة تخدم مجموعة مصالح في سياق التوازنات الدولية، إلى تقوية المصالح والنفوذ في منطقة تتبارى فيها الدول الكبرى للحصول على المزايا والمنافع المختلفة لها، ففي السودان الكثير من الموارد الطبيعية الكامنة، ويعتبر ثالث منتج للذهب والثروات المعدنية في إفريقيا، إضافة إلى المساحات الزراعية الشاسعة. الجيوبوليتيك تقوم عادةً برسم استراتيجيات وتصورات سياسية مستقبلية على ضوء تفاعلات البشر والجغرافيا، ومع ذلك لم يستطع السودان الاستفادة من وفرة الموارد الطبيعية ومساحته الشاسعة وعدد سكانه لتحقيق نمو اقتصادي، ولم يستثمر حدوده البحرية لامتلاك قوة بحرية تجعله عاملاً مؤثراً وحساساً في موازين القوى والسياسات الدولية، وأن يصبح دولة اقليمية قوية منافسة، بل وقع في خضم شبكة مصالح وتقاطعات إقليمية ودولية واسعة ألقت بظلالها على المشهد السياسي السوداني تاريخياً، فإذا به على حافة المجاعة.

 

دعم دولي وإقليمي للمتصارعين

لم تنحصر الحرب الدائرة في السودان بين قوّتين عسكريتين: البرهان، وحميدتي، فحسب، بل يحاول كل طرف استخدام شبكة حلفاء للحصول على الدعم، أمريكا وحلفاؤها، بمواجهة التأثير الروسي، ولا يخفى على أحد أن دولاً بعينها تدعم أطرافاً داخل السودان عسكرياً ولوجستياً، منها دول عربية ودول غربية، ولكل منهما شبكة من العلاقات والحلفاء نسجاها منذ سنوات خلال توليهما مسؤوليات مختلفة في فترة حكم البشير، ولكل منهما موارده المالية الخاصة، إذ يتمتع حميدتي بعلاقات دولية قوية مع روسيا وإثيوبيا والسعودية والإمارات، وشارك في حربهم في اليمن، وهو يملك ورقة اقتصادية قوية، إذ تدير قواته العديد من مناجم الذهب في إفريقيا، مع تأمين عمليات تهريب للذهب من إفريقيا تقدر بمليارات الدولارات سنوياً، عن طريق الإمارات، التي تعتبر بوابة لتهريب ثروات شعوب إفريقيا وخصوصاً السودان وليبيا إلى أوربا، وروسيا، وتعدّ الإمارات أكبر مشترٍ للذهب المنتج بشكل رسمي، حسب وكالة رويترز في تحقيق أجرته قبل عام. طبعاً الذهب مقابل الدعم، وهذا ما أكدته شكوى بعثة السودان في الأمم المتحدة ضد الإمارات التي تدعم قوات الدعم السريع بالأسلحة عبر تشاد وليبيا، بغطاء المساعدات الإنسانية.

الخبيرة في الشأن السوداني مارينا بيتر تقول: (إن الإمارات تتبع منذ فترة طويلة سياسة التوسع الاقتصادي والجيوسياسي والاستراتيجي، وهو ما يمكن ملاحظته في جميع القرن الإفريقي، وتعمل على منع الإسلاميين من العودة إلى السلطة بأي شكل)، بالمقابل يعوّل البرهاني على دعم دولي، بعد حصوله على دعم أمريكي، ونيّته التطبيع مع إسرائيل وانضمامه إلى اتفاقيات أبراهام، وهو يحظى أيضاً بدعم مصر والقوى الإسلامية التي تعتبر السودان العمق الاستراتيجي لها.

الجديد في المشهد السوداني هو إيران، التي تزوّد الجيش بالطائرات المسيرة.

جنرالات يخوضون صراعاتهم العبثية، بخلفية قبَلية، لحساب حلفائهم، يتنافسون على مستقبل السودان ويسعون منذ سقوط البشير ليصبح كلٌّ منهم الرجل الأول في السودان. تفجُّر الصراع على السلطة والنفوذ بين الجانبين أدى الى مرحلة لم يعد بالإمكان تجاوزها، تتخذ أبعاداً متسارعة تزيد المخاطر وتهدد الوضع الأمني والانساني في البلاد، وتجعل السودان بمواجهة تحدّيات قاسية ومفتوحة على تطوّرات وسيناريوهات حرجة، رغم المساعي المبذولة لإنهاء هذا الصراع المسلح من خلال المفاوضات أو الضغوط الدولية.

 

الخسارات تتفاقم

والمستقبل غامض

يواجه السودان مستقبلاً غامضاً مع قناعة كلّ طرف بقدرته على تحقيق النصر، ولكن ليس هناك أية مؤشرات لمعادلة تمنح طرفاً الخسارة، وتمنح الطرف الآخر الربح. إن حرباً لن يكسبها طرف سيخسرها الجميع، الوطن وأبناؤه.

 

حلّ سياسي.. أو انهيار شامل

وزير الإعلام السوداني السابق فيصل محمد صالح يتوقع أن يشهد السودان تحولات كبيرة (فالحرب في السودان وصلت إلى نهايتها المنطقية، ولم يعد أمامها سوى خيارين لا ثالث لهما، فإمّا اتفاق لوقف إطلاق النار يسبقه حوار سياسي حول مستقبل البلاد، وإما الانهيار الشامل والدخول في متاهة لا يمكن التنبّؤ بعمقها ولا احتمالات الخروج منها).

السودان يحتضر بإطالة الحرب وتراجع الأمل في السلام، وربما تنتهي الحرب بانهياره وتمزقه وتشتّته وإبادة مجموعات من سكانه، والخوف من انزلاق السودان إلى حرب أهلية مفتوحة ودخوله إلى خط الصراع بين أطراف إقليمية ودولية، وقد يتحول إلى حرب بالوكالة بين دول إقليمية ودولية تسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة، ويكون ضحية تداعيات التراجع الأمريكي في العالم.

صراخنا إلى بقايا العرب وبقايا الغساسنة والمناذرة، وبقايا داحس والغبراء، وإلى بقايا قابيل وهابيل، ولكن أين العرب؟؟

السودان كما غزّة، يحتضر.. يا وجعنا!

 

العدد 1140 - 22/01/2025