بين فحشَين

د.أحمد ديركي:

منذ الصغر ونحن نسمع كلمة فحش تقال في أحاديث الكبار. وتعني، كما كنا نفهمها حينذاك: المبالغة في فعل الشيء، البكاء فوق الحد الطبيعي، مثال على فحش البكاء. الفرح فوق الحد الطبيعي مثال على فحش الفرح. مع التقدم بالعمر وارتفاع مستويات الوعي، وهذا أمر بديهي لكل من يكتب له أن يعيش، لأنه في بلادنا هذا الأمر ليس متاحاً للجميع على اعتبار أن الموت متربص بنا على كل مفرق من مفارق طريق العمر، تعمّق معنى الفحش وأصبح أوضح.

وأصبح استخدام كلمة فحش أكثر صوابية في الموقع والمعنى مع تقدم العمر، وبعد أن تبين أن فُحش كلمة من كلمات اللغة العربية الفصحى لا العامية، وتعني، وفقاً لابن منظور في (لسان العرب): الفُحش والفَحشاءُ والفاحِشة القبيح من القول والفعل، وجمعها الفواحش… (و) ما يَشتد قبحه من الذنوب والمعاصي.

كونها كلمة عربية فصحى، وعامية في الوقت عينه، وتحمل المعنى عينه، بالفصحى والعامية، فهي كلمة متجذرة في الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، منذ زمن طويل وحتى تاريخه وإلا ما احتفظت هذه الكلمة بمعناها حتى تاريخه. فلو انتفت الوقائع المعبرة عنها لانتفى وجود هذه الكلمة في اللغة، وبخاصة العامية ولبقيت محفوظة في قواميس اللغة الفصحى، حيث هناك الكثير من الكلمات التي لم تعد مستخدمة إلا في قواميس اللغة أو عند كتابة نصوص أدبية، ويعود هذا إلى زوال الواقع المعبّر عنها.

حالياً، يبدو كما كان سابقاً، الفُحش إحدى أبرز سمات ما نعيشه في العالم العربي. ومن أبرز سمات الفحش الحالي: فحش الغنى مقابل فحش الفقر.

كل من يتجول في عاصمة عربية، طبعاً باستثناء دول فحش الغنى العربي والمقصود دول الخليج العربي، وإن كانت في عواصم الخليج العربي توجد مناطق محددة يظهر فيها فحش الفقر، ومن دون أي جهد نظري أو فكري يرى الفحشَين: فحش الغنى وفحش الفقر، تفصل بينهما أمتارٌ قليلة فقط.

فحش الغنى يرتبط بعلاقة وطيدة بفحش الفقر، بمعنى كلما زاد فحش الغنى زاد معه فحش الفقر. والفارق بين الفحشين هو أنه مع ازدياد فحش الغنى يقلّ عدد الأغنياء ويزداد غناهم، ويعود هذا في جزء منه إلى مبدأ التنافسية في النظام الرأسمالي، مقابل ارتفاع عدد الفقراء وزيادة فقرهم.

فحش غنى يقابله فحش فقر، وهذا أمر بديهي في نمط الإنتاج الرأسمالي، وبخاصة في بدايات تشكل هذا النمط الإنتاجي، وكانت في حينها تعرف بالرأسمالية المتوحشة. فقامت ثورات عمالية، نعم ثورات الطبقة العاملة، بعد أن وضع أسسها كارل ماركس وصديقه فردريك إنجلس، لتقليص الفجوات بين الفحشين، وأجبرت الأنظمة السياسية القائمة على وضع قوانين تحد من هذا الفحش، وبخاصة فحش الفقر. ومن هذه القوانين قوانين الضريبة التصاعدية، وتحديدالحد الأدنى من الأجور، والخدمات العامة كالتعليم المجاني والطبابة المجانية وضمان الشيخوخة … وغير ذلك.

حالياً في منطقتنا، كي لا نبتعد كثيراً، نشهد أن الفحش هو المتحكم بالأنظمة السياسية، وتحديداً فحش الغنى. لنأخذ على سبيل المثال الحد الأدنى للأجور مقابل تكلفة العيش.

مثلاً في سورية، ولا يختلف الأمر كثيراً عما هو في لبنان، الحد الأدنى للأجور الشهرية لا يكفي للبقاء على قيد الحياة لمدة تزيد عن أسبوع، إذ احتسبنا اجرة السكن والطعام والملبس والتعليم والطبابة والنقل… وإذا حذفناها جميعاً وأبقينا فقط تكلفة الطعام، فالحد الأدنى للأجور لا يكفي ثمن طعام، طبعاً طعام نباتي لا لحومي، لمدة 15 يوماً. لذا فكل الاحصائيات المحلية والدولية تفيد أن نسبة الفقر، وتعني أن دخل الفرد لا يتعدى دولاراً ونصف دولار يومياً، تبلغ في سورية حوالي 80%، وفي لبنان تقريباً النسبة عينها. أي أن دخل الفرد بحدود 45 دولاراً شهرياً. وهو مبلغ يستحيل فيه البقاء على قيد الحياة لمدة شهر!

مقابل هذا، وكذلك اعتماداً على الإحصائيات، هناك 20% يملكون من الثروات ما يفوق الوصف!  والأصح هناك 10% ثرواتهم تفوق الوصف. لأن هذه الـ10% تحاول البقاء في موقع الوسط، لكن هذا أمر مستحال في طبيعة الأنظمة القائمة، لأنها أنظمة تعمل على الترقّي في فحش الغنى.

ففحش الأغنى يمكن أن نراه يومياً من دون أي جهد. مثلاً هناك من يقود سيارة في دمشق ثمنها يكفي لإطعام عائلة من 5 أفراد لمدة تزيد عن عشر سنوات! وفي بيروت نرى سيارات في شوارعها قيمتها تكفي لإطعام عائلة كاملة لمدة تزيد عن عشر سنوات! أي هناك فحش غنى مقابل فحش فقر، فضلاً عما نراه في المطاعم، ففي أحد مطاعم دمشق ثمن وجبة طعام واحدة تعادل مدخول شهر للموظف، وكذلك الأمر في بيروت، من دون احتساب البخشيش!

وفي العمل للحد من الفحشين تقوم الأنظمة السياسية بوضع المزيد من التسهيلات لفحش الغنى، أي ترفع مستويات فحش الفقر. وتبرر أفعالها التسهيلية لفحش الغنى بألف كذبة وكذبة! ثم تصدح بخطاباتها الرنانة حول محاربة الفساد! محاربة الفقر! إلقاء القبض على سارقي الأموال العامة!

وهذا أمر يقودنا إلى فحش الكذب التبريري لتسهيل فحش الغنى. فمثلاً في لبنان جرى إلقاء القبض على حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة! وكأن الشخص بذاته هو جوهر هذا الفحش وليس بنية النظام! ويبدو أنه أمر اعتيادي، من أمور تشويه الوعي الطبقي، تعميم فكرة شخصنة الأمور. وكأن إلقاء القبض على رياض سلامة سوف يحدّ من فحش الغنى المدعوم من قبل النظام السياسي ويقلل مستويات فحش الفقر! فتضج الصحف اليومية بأخبار إلقاء القبض على سلامة وتتبّع هذا الحدث وإظهاره وكأن ذاك الفعل من قبل النظام السياسي يمكن أن يسجل في كتب التاريخ على أنه واحد من أبرز الحسنات في إطار مكافحة الخلل في النظام!

نحن نعيش في بلادنا في مرحلة الرأسمالية الوحشية، وهي مرحلة تتطلب منا وعياً أعمق لمجريات الأمور، ونضالاً أعمق مما نظن. فتحرير بلادنا لا يقتصر على طرد المحتل منها. بل تحرير بلادنا يجب أن يقوم على أكثر من جبهة وفي الوقت نفسه. ومن هذه الجبهات الحد من الرأسالمية الوحشية، تحرير بلادنا من الاحتلال، وتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني. إن فشلنا في واحدة من هذه الجبهات فشلنا في كل الجبهات، لأن هذه الجبهات داعمة بعضها للبعض الآخر، وبعضها مكمل للبعض الآخر. تحرير لا يمكن أن يحمله سوى الفكر الماركسي اللينيني، لأنه فكر تحرري متعدد الأبعاد ومتكامل المنهج.

العدد 1140 - 22/01/2025