(الانتصار الروسي مؤلم.. ولكنّه محتوم)
د. نهلة الخطيب:
انتهت الحرب الباردة الأولى بالتسعينيات، والمفروض بناء نظام عالمي جديد، لكننا فشلنا، وتتحمل المسؤولية عن ذلك الدول العظمى، وحسب بريجنسكي (إنها الفوضى الخلاقة الجديدة والتخلي عن سياسات الاستقطاب وصراعاته)، ولكن عودة الحرب إلى أوربا مع الحرب الأوكرانية، تلتها الحرب في الشرق الأوسط، والتوترات المتزايدة حول بحر الصين الجنوبي، مشكّلةً فصلاً جديداً من الصراع المستمر، وقد يشكل نقطة تحول خطيرة، وكأنها في طريقها إلى صدام دولي قد يشمل عدة نطاقات مفتوحة. نحن نعيش في عالم معقد، وأكثر تعقيداً أن تقفر على قرن وحيد القرن، فالسلوك الاستفزازي لأمريكا لا يؤدي إلا إلى صب الزيت على النار، بعد أن أصبحت أمريكا وحلفاؤها أكبر ممول لهذه الحروب بشكل صريح وعلني: التبنّي الكامل لإسرائيل في حربها بغزة، وفي أوكرانيا وصل حجم المساعدات الأمريكية المقدمة إلى ما يقارب 90 مليار دولار منذ بداية الحرب، و50 مليار دولار من الدول الأوربية، تشمل مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية واستخباراتية ومعلوماتية.
بعد عامين من الحرب الروسية الأوكرانية تغيّر المشهد الذي مرّ بتحولات كبيرة ومعارك دامية بين الطرفين، تكللت بتقدم القوات الروسية والسيطرة على خُمس الأراضي الأوكرانية، سيطرت على مدينتي دونيتسك ولوغانسك، ثم أعلنت سيطرتها الكاملة على باخموت، وأخيراً أفدييفكا في دونيتسك، كان تقدماً بطيئاً ولكنه ثابت، باعتراف أمريكا والغرب، مع يقينها أن (الانتصار الروسي مؤلم ولكنه محتوم).
لا روسيا ولا أوكرانيا مستعدة حالياً للتفاوض، وحتى هذه اللحظة لا يوجد مؤشر على ذلك، بل ما يزال الجانبان ملتزمين بالخيار العسكري، ويتمسك الرئيسان الروسي والأوكراني بأهدافهما المعلنة، التي حالت دون إجراء محادثات مباشرة لإنهاء الصراع، الذي بدأ بحشد روسي كبير في 24 شباط عام 2022، الحشد استمر على أكثر من مرحلة، قرار الحرب متخذ من 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم، لتكون الجمهورية (22) في الاتحاد الروسي، فيما تكمن أهميتها الاستراتيجية راهناً، وبعيد تفكك الاتحاد السوفييتي، بأنها المنفذ الأساسي لروسيا على البحر الأسود، وخصوصاً بعد تفكك (المنظومة الاشتراكية) في دول شرق أوربا، وتحول البحر الأسود إلى قواعد أمريكية أو أطلسية، وزاد في وتيرة الحرب إصرار أوكرانيا على عدم الحياد، وسعيها إلى الانضمام للناتو، والإصرار التام على مواجهة كل من يؤيد عودتها إلى الاتحاد السوفييتي السابق.
حالياً نشهد فصلاً جديداً من الحرب يعدّ تحولاً في مسارها بملامح جديدة، ويعيد زخم المعارك بشكل أكبر ويبعد طيف التفاوض الذي تحدث عنه زيلنسكي عندما دعا بوتين إلى محادثات سلام، (عملية كورسك) التي بدأت في الشهر الماضي بتوغل بري قامت به القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك بشكل سري ومفاجئ، وسيطرت على 1300 كم2 في العمق الروسي، هي ضربة موجعة لروسيا، تمس هيبة القيصر، فالمعارك تجري على أراضٍ روسية، وهذا لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، ومنذ بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، بدعم استخباراتي ومعلوماتي كبير من الناتو وأمريكا، والسماح باستخدام السلاح الغربي والأمريكي في العمق الروسي. فإلى أي مدى سيستفز ذلك بوتين ويجرّه إلى اعلان حرب على الدول الغربية في ظل حديث موسكو المتكرر وتحذيرها من حرب عالمية ثالثة، وهل سيكرس (الدب الروسي) كل إمكانياته لحسمها؟
العملية العسكرية لم تخرج عن نطاق السيطرة، ضربة يائسة لن تنجح ولا تحمل أي بعد استراتيجي بعيد المدى، وربما لا تكون الأخيرة، فالأسلحة الغربية لعبت دورها في هذه العملية، ويمكن أن يكون لها دور في عمليات لاحقة، والخوف من توجيه ضربات لمناطق أخرى، وجسر القرم مهدّد بشدّة، وهذا استفزاز لبوتين لاستخدام النووي (وهو لن يغامر بذلك). كانت بمثابة الضوء الأخضر من أمريكا وحلفائها لتوجيه ضربات في العمق الروسي بعد أن كانوا يعترضون على ذلك، فالهدف من القيود التي وضعتها أمريكا والغرب على استخدام أوكرانيا لأسلحتها سابقاً في استهداف العمق الروسي هو تفادي مواجهة مباشرة مع روسيا، على الرغم من تجاوز خطوط حُمر في كثير من الأحيان، سواء باستهداف نورد ستريم واستهداف الكرملين بالدرونز، كانت ميزة لروسيا حدت من قدرات أوكرانيا في التصدي والهجوم على المواقع التي تنطلق منها الصواريخ الروسية، ولكن اليوم هناك تسريب لمعلومات حول خطة أوكرانية سيناقشها زيلنسكي ووزير دفاعه في زيارة قريبة لواشنطن، تتضمن تحديد مواقع بالأراضي الروسية يمكن استهدافها أبعد بكثير من المناطق الروسية الحدودية مع أوكرانيا في حال تمت الموافقة عليها، وهجوم كورسك يؤكد الاستمرار، وأنه لا يوجد خطوط حمر لا يمكن تجاوزها، ويؤكد وجود تغيُّر في النفس الغربي في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، واستخدام الأسلحة الغربية لاستهداف العمق الروسي سيكون له أثار جيوسياسية خطيرة.
أهداف أوكرانيا من هذه العملية الخاطفة التي ترى فيها تحولاً وانتصاراً كبيراً: رفع الروح المعنوية للجيش والشعب الأوكراني، وإعادة الثقة الغربية بقدرات أوكرانيا بعد فشل الهجوم المضاد بسبب التحصينات الروسية القوية التي كانت ضعيفة على محاور كورسك، وتخفيف الضغط الروسي عن كل الجبهات وخاصة من منطقة دونيتسك، وهذا لم ولن يحدث، فوزارة الدفاع الروسية أعلنت (أنها لن تسحب جندياً روسياً واحداً من تلك المنطقة)، إضافة إلى تحسين شروطها التفاوضية في المستقبل (أرض مقابل أرض).
على ضوء هذه التطورات وبالنظر إلى تسارع الأحداث في الشرق الأوسط واحتمال مشاركة روسيا عسكرياً في حال اندلعت الحرب هناك، والخوف من عودة الضربات الروسية التي كانت مقتصرة على بعض المناطق التي تريد إحكام سيطرتها عليها، وهو ما تتحدث عنه روسيا منذ بداية العملية ، وتؤكدها التصريحات الأخيرة لميدفيدف (لابد أن نعيد توجيه ضربات أخرى ليس للعاصمة كييف وإنما على الحدود مع هولندا)، (والدبابات الروسية يجب أن تصل إلى برلين)، (فروسيا قد تخسر معركة، ولكنها لا يمكن أن تخسر حرباً)، وبالتالي هو توسيع نطاق الضربات الروسية سواء الصاروخية والمدفعية، تزيد المخاوف بشأن احتمال نشوب (حرب عالمية ثالثة)، هذه الحرب لن تحدث بين ليلة وضحاها، ولكنها أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى، ومن الصعب تفاديها لعدم توغر الثقة بين الدول الكبرى، ربما تزيد وتيرتها من الجانب الروسي، لتحقيق إنجاز عسكري يحيد دور الأسلحة الغربية في الصراع.
إدارة بايدن في وضع لا يسمح لها قبول أي تسوية أو مفاوضات، بسبب الاستحقاق الرئاسي القادم، وفشل هذه الإدارة في هذا الملف، أشهر تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستؤشر إلى طبيعة الحل القادم، وبانتظاره، فإن التفاعلات الأوكرانية الداخلية والخارجية مستمرة، وكلا الطرفين يريد أن يعزز موقفه وأوراقه لإنهاء الصراع، ومشهد المفاوضات الأوكرانية سوف يضاف إلى مشهد المفاوضات الفلسطينية والإيرانية، والسورية، والسودانية، فهل ستحقق أهدافها؟؟