استغباء لمزيد من الخيانة

د. أحمد ديركي:

جميل وصف الإنسان بالكائن الذكي. فالذكاء إحدى الصفات المادحة ويعتبر واحدة من الصفات التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى مستويات أعلى في إنسانيته. وكم يشعر بالفخر ذاك الكائن البشري عندما يوصف بأنه ذكي، حتى لو استخدم الذكاء بطريقة سلبية. فمن يستطيع ارتكاب جريمة من دون ترك أي أثر على جريمته فهو إنسان ذكي. هذا المقصود بالاستخدام السلبي للذكاء. وها هو ذا العالم اليوم يضج ويلهث علمياً من أجل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي.

يقابل الذكاء الغباء. فالغباء صفة سيئة تلحق بالكائن البشري لتحط من بشريته وتجعله أقرب إلى الحيوان أو حتى ما دون الحيوان. فالغبي هو ذاك الكائن البشري شكلاً لكنه أدنى من الكائن البشري عقلاً. ويعود هذا إلى ارتباط الذكاء بصحة العقل البشري.

أما الاستغباء فهو عملية معقدة، عندما يحاول من يظن نفسه ذكيّاً ويستخدم ذكاءه الكاذب ليقنع من هو أذكى منه أنه غبي. أي محاولة إقناع الذكي بأنه غبي من قبل كائن بشري غبي. ويبدو أن هذا الأمر، أي الاستغباء، أصبح مديحاً للأغبياء وبخاصة في عالم الأنظمة السياسية.

أظهرت القضية الفلسطينة ومجريات الأحداث اليوم والحرب من قبل الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني أن الاستغباء لعقول الأذكياء هو المتسيد في كل المجالات، من المفاوضات وصولاً إلى وسائل الإعلام بكل أشكالها وإلى أية دولة انتمت هذه الوسائل.

الأنظمة السياسية، الأكثر تقدماً و(ديمقراطية) على شاكلة النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية وصولاً إلى الأنظمة الأوربية وما شابهها من أنظمة تدعي (الذكاء) السياسي والمؤسسات الدولية من الأمم المتحدة وصولاً إلى كل المنظمات اللاحكومية فهي جميعها تستغبي كل من هم في خارج نطاق سياساتها الاستغبائية. وكل هذه الأنظمة السياسية والمنظمات الدولية وغير الدولية تضم كبار المفكرين وأصحاب الشهادات العلمية بأعلى مستوياتها وبكل الاختصاصات وتعمل على كل الجوانب الحياتية وتدفع آلاف الدولارات شهرياً رواتب لكل موظف، أو موظفة لديها. وقد أظهرت القضية الفلسطينية أن جميعهم، من الأنظمة السياسية إلى المنظمات الدولية وغير الدولية وكل العاملين فيها وأصحاب الشهادات العليا، يهدفون إلى صناعة الاستغباء وتسويقة لكل من لا يتوافق معهم.

الأمور واضحة لا لبس فيها، حتى من هم أصحاب ذكاء مقبول، يعرفون الحقائق ويقرون بها، إلا هؤلاء صانعي الاستغباء. الجميع يعلم أن الأشياء تسقط من الأعلى إلى الأسفل، الغيوم تسبح في السماء، ماء البحر مالح، الإنسان من دون ماء يموت… وألف بديهية أخرى ويتعامل الناس مع بعضهم البعض وفق العديد من هذه البديهيات. ومن البديهيات أيضاً أن هناك أنظمة سياسية وحكومات وحدوداً جغرافية وقوانين تحكم مواطني هذه الدول، وأن هناك قوانين دولية ومنظمات دولية ترعى وتصدر هذه القوانين، والدول توقع على هذه القوانين وتصبح ملزمة بتطبيقها. وأن هناك قرارات دولية تصدر عن هذه المنظمة الدولية المسماة الأمم المتحدة، التي يتقاضى موظفوها آلاف الدولارات شهرياً على اعتبار أنهم مفكرون من الدرجة الأولى، تلزم الدول بتطبيقها، وأن الاستعمار والاحتلال أصبحت أموراً من الماضي…

تسقط كل هذه المقولات عند الاقتراب من الكيان الصهيوني ويتسيد الاستغباء للجميع لتكون الأمور في صالح هذا الكيان الاستعماري. الأمم المتحدة تقر بأنه يحتل أراضيَ فلسطينية وعربية وتفرض عليه الانسحاب منها، ووفقاً للقانون الدولي يحق للمحتل أن يقاوم الاحتلال ويحرر أرضه. عندما قاوم الشعب الفلسطيني المحتل الصهيوني اتُّهم بالإرهاب! وكل داعم للمقاومة الشعب الفلسطيني، منذ احتلال فلسطين حتى اليوم، متهم بالارهاب. أليس هذا استغباء؟

النظام السياسي الأمريكي والأوربي وبعض العربي داعم بلا قيود للكيان الصهيوني، أي أن هذه الأنظمة داعمة للاحتلال، والاحتلال يتناقض مع مفهوم الديمقراطية. فكيف يمكن أن نصف هذه الأنظمة على أنها ديمقراطية؟ أليس هذا استغباء؟

الأنظمة العربية تدعي بأنها داعمة للقضية الفلسطينية، وتقيم علاقات تبعية بامتياز مع النظام الأمريكي داعم الكيان الصهيوني فكيف لها أن تكون داعمة للقضية الفلسطينية؟ أليس هذا استغباء؟

بعد مرور ما يقرب سنة من الحرب الوحشية التي يشنها الكيان الصهيوني بدعم أمريكي أوربي عربي على شعب فلسطين، والأمم المتحدة وكل داعمي هذه الحرب الوحشية على الشعب الفلسطيني ما زالوا يبحثون عن حلول للوصول إلى (وقف إطلاق نار) بين الطرفين. أليس هذا استغباء؟

يقوم الكيان الصهيوني بدعم أمريكي أوربي عربي باغتيال يومي لقادة المقاومة الموجودين خارج فلسطين، والأمريكي يقول: علينا استكمال المفاوضات. أليس هذا استغباء؟

الأنظمة العربية، من قطر إلى مصر، تستضيف الأمريكي والصهيوني للبحث في كيفية استكمال المفاوضات، في الوقت الذي يستمر فيه الكيان باستكمال مجازره في فلسطين، والاغتيالات خارج حدود فلسطين. أليس هذا استغباء؟

يغتال الكيان الصهيوني قياديّي المقاومة في الأماكن السكنية، في الضاحية في بيروت، وفي طهران، واليوم في مدينة صيدا، وغداً لا أعلم أين، وما زال المجتمعون من الأنظمة العربية مع الأمريكي والصهيوني يبحثون في ضبط النفس وكيفية استكمال المفاوضات. أليس هذا استغباء؟

طلب التهدئة من الطرف الفلسطيني المقاوم للاحتلال مقابل الدعم المطلق للمحتل، الكيان الصهيوني، هو الأساس في مجريات الحرب الوحشية على الشعب الفلسطيني. أليس هذا استغباء؟

الاقتصاد العالمي الرأسمالي مصاب بأزمة بنيوية. وتكلفة الحرب الوحشية على الشعب الفلسطيني من قبل الكيان الصهيوني وداعميه تريليونات من الدولارات. على سبيل المثال لا الحصر، تكلفة ساعة طيران لطائرة أف 16 تقارب 20 ألف دولار، من دون احتساب تكلفة ذخيرتها الحربية عندما تقصف. وهذه الطائرات لم تغادر سماء فلسطين ولا لبنان منذ بداية الحرب، أي منذ ما يقرب العام. فلو احتسبنا تكلفة طائرة واحدة فقط، وهذا غير صحيح لان هناك دائماً أكثر من طائرة تحلق، لكن لنفترض أن طائرة واحدة فقط حلقت ولم تقصف، فالمبلغ يصل إلى 20 * 220 = 4400 دولار أمريكي لتحليق طائرة واحدة ولمدة ساعة فقط من دون استخدام ذخيرتها. أضف إلى هذا المبلغ ما تريد من سرب طائرات يومي، وصواريخ الباتريوت، فسعر كل صاروخ من هذه الصواريخ يبلغ 4 ملايين دولار، وبطارية هذه الصواريخ سعرها مليار دولار أميركي. وسعر كل دبابة ميركافا 3 ملايين دولار ونصف… فضلاً عن تكلفة تحرك الأساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية وغير الأمريكية الداعمة للكيان في حربه الوحشية… لذا أصبحنا نتكلم عن حرب يشنها الكيان الصهيوني على شعب فلسطين المقاوم بأسلحة خفيفة. حرب تكلفتها تريليونات من الدولارات، وهي مستمرة أي التكلفة على ارتفاع يومي. فمن يدفع كل هذه الأموال والاقتصاد العالمي الرأسمالي مأزوم؟ الصهيوني لا يملك اقتصاد يغطي ولو 1% من هذه التكلفة، من يدفع كل التكاليف هم داعمو هذا الكيان المهزوم من دون دعمهم، الأمريكي والأوربي والعربي وتحديداً الخليجي، لأنه الأغنى بين الدول العربية. أليس هذا استغباء؟

في ظل ما نشهده يومياً من كل الجهات الرسمية وغير الرسمية لتصنيع الاستغباء وتسويقه لن نكون خاضعين لهذا الاستغباء الذي يهدف إلى مزيد من خيانة القضية الفلسطينية.

العدد 1140 - 22/01/2025