بايدن وترامب ورصاصة الرحمة السياسية
د. نهلة الخطيب:
حكاية أمريكا نفسها سواء كانت إدارتها جمهورية أو ديمقراطية، لا فرق بينهما إلا بالأسلوب والاستراتيجية، وسواء كان على رأسها جو بايدن، المسنّ والخرف، أو دونالد ترامب، المسنّ بدرجة أقل والأخطر في الفكرة والسلوك من الخرف.
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من أزمة زعامات بدأت من ترامب واستمرت ببايدن. صراعات، حروب في كل مكان، ونسأل: ماذا فعلت الولايات المتحدة سياسياً للآخرين؟ فالسياسة الخارجية الأمريكية، كما سياسات القوى الكبرى الأخرى، مدفوعة بشكل أساسي باعتبارات الأمن القومي الملموسة، والتي ستكون دائماً هي العامل الحاسم والمحدد لهذه السياسات. الآن رجلان وجهاً لوجه، جو بايدن، ودونالد ترامب، وكلاهما خطر على العالم.
بايدن أكبر الرؤساء سناً في تاريخ الولايات المتحدة، وما يواجهه منذ توليه السلطة، وظهور تحديات يصعب مواجهتها تجسدت بالحروب العسكرية والاقتصادية والطاقية والسيبرالية، تضخم وفقر وجوع، قوى أخرى منافسة، وتراجع مكانة أمريكا الدولية، إضافة إلى حدة الانقسامات والعداءات الحزبية لدى الجمهوريين والديمقراطيين حول الأولويات السياسية، بينما الاقتصاد الأمريكي على المحك، يأمل في ولاية ثانية، فكان إصراره على متابعة حملته الانتخابية بعد فشله في مناظرته مع منافسه ترامب، وأعتقد أن الخيبة حاضرة بسبب تخلي الحلفاء عنه، بالأخص باراك أوباما ونانسي بيلوسي، وانخفاض تبرعات حملته المقرر جمعها من المانحين إلى أقل من النصف في ظل دعوات لتنحيه، وخضوعه لضغط كبير لدفعه للانسحاب طوعاً، وهو يعتقد أن له قاعدة صلبة يستند عليها، وهي مركز قوته، تجربة فاشلة بنسبة كبيرة.
بينما اعتاد ترامب في حديثه مع مؤيديه على استخدام لغة عنيفة، ولكن شهدنا شخصاً مختلفاً تماماً، عندما ألقى خطاباً خلال مؤتمر الحزب الجمهوري لترشيحه رسمياً للانتخابات، تحدث بشكل إنساني عن محاولة قتله دون أن يسيّسها ودون أن يتهم أحداً. كان خطاباً استثنائياً غير معهود لترامب، غياب الهجوم والعدوانية، وغياب النرجسية والأنا، بدا ترامب وكأنه هو رئيس أمريكا الحالي وليس القادم، وأرسل رسالة قوية للحزب الديمقراطي، مفادها أن ما جعلني أتحدث بهذه الثقة الكبيرة هو أنتم كديمقراطيين، بسبب تخبطكم وعدم وضوح برنامجكم الانتخابي، خطاب معتدل من جهة النظرة مع التأكيد على السياسات المتشددة نفسها، ربما تماشياً مع رغبة بعض زعماء الحزب الجمهوري من خطاب يظهر الوحدة، ويحاكي جميع الأمريكيين الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين الذين ملوا من التطرف، إضافة إلى وجود أقلية جمهورية تتهمه بتعزيز الانقسام، لا ترتاح إلى الخطاب المتشدد في النبرة، فهل يستطيع بهذه اللهجة الجديدة أن يكسب هؤلاء مجدداً؟؟ ولا ندري هل التغيير في الخطاب هو تغيير في الشخصية السياسية، أم تغيير في الخطاب الانتخابي، سيتبخر لاحقاً.
أعاد ترامب ذكر توجهات سياسته الداخلية والخارجية، وتبنى البرنامج الانتخابي للمؤتمر بنقاطه العشرين، التي وردت في البرنامج الانتخابي عام 2016، لا تغير في معظم السياسات، بل بدا أكثر تشدداً في تنفيذ خططه التي عهدناها في الفترة السابقة، ولكن التغير في النظرة بخصوص الهجرة، والسياسات الحمائية، والوقوف ضد الصين، سيرفع التعرفة الجمركية مع الصين ليس 100%، بل 200%، والتغير في النظرة يوحي باستعداد للتفاوض وليس الإصرار عليها. النقطة الوحيدة التي بدا فيها تغير في النظرة هي حق الإجهاض، فقد كان يهاجمه على أسس دينية وأخلاقية، خسر أصوات أغلبية النساء الأمريكيات لأنهنّ مع الإجهاض، ويبدو الآن لم يناقشه أخلاقياً، وانما بشكل قانوني، وأنه يعود للولايات أن تقرر بشأنه وليس الحكومة الاتحادية. باقي السياسات بقيت على حالها: لا اهتمام بالتلوث البيئي، العودة للتنقيب، الهجرة، وهجوم على صناعة السيارات الكهربائية.
أهم ما جاء في السياسة الخارجية أنه سينهي كل أزمة دولية خلقتها الإدارة الأمريكية، وأنه يستطيع وقف الحروب بمكالمة هاتفية واحدة، ولكن السياسة الأمريكية المقبلة نحو أوكرانيا حتى لو فاز ترامب لن تحمل تحولاً كبيراً عن سياسة بايدن، فهناك رأي أمريكي قوي ومشرّعين جمهوريين تدعم أوكرانيا، وضد روسيا وسلوكها تجاه أوكرانيا، ومحاولتها قلب معادلة الأمن الأوربي، لا يستطيع أي رئيس أمريكي أن يفرض حلاً على أوكرانيا بتنازلها عن أراضٍ تعود لها، لصالح روسيا، الخوف الأوربي من عودة ترامب دفعها إلى زيادة الإنفاق العسكري وإنتاجها الحربي والاستعداد لدعم أوكرانيا من دون أمريكا.
ترامب استطاع إعادة صياغة الحزب الجمهوري، ولكنه لم يكن قادراً على تجاوز القواعد الدنيا للحزب. ربما يكون انتصاراً انتخابياً فرضته ظروف العولمة وو، فهناك أقلية مؤثرة في الحزب ترفض التوجه الذي يتبناه ترامب، فالحزب الجمهوري التقليدي يدعو إلى حرية التجارة لا إلى فرض ضرائب وتعريفات جمركية عالية، حزب يتبع سياسات منذ نصف قرن، تتلخص بحضور قوي لأمريكا في السياسة الخارجية، واستعداد لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن المصالح بعكس ما يريده ترامب: (انعزالية).
رونالد ريغان، ملهم الجمهوريين، وصف الاتحاد السوفيتي بـ(إمبراطورية الشر)، يخالفه ترامب الذي يرى أن بإمكان بوتين أن يفعل ما يشاء، وموقفه من حلف الناتو مناقض للقيم التقليدية للجمهوريين. الدولة العميقة كانت تلعب سياستها مع الحزبين، ولكن ترامب حاول تحييدها في وضع السياسة الخارجية، فأمريكا أولاً ثم مصالح الآخرين.
ترامب بعيد ومناقض لإيديولوجيا الحزب الجمهوري، ولكنه الآن مهيمن بسبب تمدد الشعبوية المتطرفة، فهل ما يظهر من تأييد الجمهوريين هو تأييد مرحلي؟؟ وهل يمكن أن تشهد الفترة المقبلة، إذا فاز ترامب في الانتخابات، نزاعات بين إيديولوجية ترامب وفكره، مع سياسة الحزب الجمهوري وأسسه؟؟
الترامبية الآن لديها نظرية الخلود التي يسندها فكر المحافظين الجدد المتضمن هدم العالم القديم وتفتيته، وبناء عالم جديد تكون فيه أمريكا أولاً. الترامبية ستحيي صفقة القرن وتفرضها وستنهي الوجود الاقليمي لإيران ثم الصين، وستنهي حلف الناتو لتبني أحلافاً جديدة إقليمية ومركزية، وستسيطر على منابع الطاقة في العالم وبناء نظام اقتصادي يتناسب مع حاجاتها.
ما دام شعار ترامب: قاتِلوا، قاتلوا! وما دامت أمريكا هي من تدير موتى الآخرين، فالآتي خطير جداً.