ليس فيلسوفاً

د. أحمد ديركي:

ليست الفلسفة بذاك الشيء المستحدث على الفكر البشري، فهي نتاج العقل البشري منذ زمن بعيد. وما زال الإنسان منذ حينها يخوض غمار محاولة تعريفها. وصولاً إلى تناقضات وصراعات ما زالت قائمة بينها وبين الدين. فبعض الأديان، بمعنى المذاهب الدينية، لأن الأديان السماوية انتهى عهد نزولها، أي نزلت وتمأسست ولم يعد هناك ديانات سماوية جديدة. وعند الحديث عن الديانات السماوية فهي ثلاثة لا رابع لها، وهي بالتتالي: اليهودية وتلتها المسيحية واختتمها الإسلام، حرمت التفكير الفلسفي.

هناك شبه إجماع على أن الفلسفة، بمعنى وضع أسس التفكير الفلسفي، بدأت مع الحضارة اليونانية ويعتبر طاليس من أوائل الفلاسفة في تاريخ البشرية. لماذا بدأت الفلسفة مع اليونان؟

يعيد الكثير من المفكرين الأمر إلى أن الفلسفة اليونانية أخرجت التفسيرات الأسطورية للوجود وحاولت إعطاء إجابات واقعية. فعلى سبيل المثال، طاليس أعاد أصل الأشياء إلى الماء. أي أن الماء هو أصل الوجود وكل ما هو موجود. وبهذا لم يعد أصل الوجود مرتبطاً بذاك الفكر الأسطوري الذي يعيد كل الوجود إلى عالم الأسطورة. بل أصبح تفسير الوجود مرتبطاً بما هو موجود. فالماء، شيء موجود، لا ذاك الشيء الغيبي الذي ابتدعه العقل البشري، الذي أوجد الوجود. وهلم جرّا إلى بقية الفلاسفة اليونان، وصولاً إلى أفلاطون الذي أعاد خلق عالم المثل.

والأمر المثير للدهشة هو أن الفلسفة وأسئلتها ما زالت قائمة حتى اليوم، والجميع يحاول الإجابة عليها. ومن هذه الأسئلة على سبيل المثال لا الحصر: من أين أتينا؟ إلى أين ذاهبون؟ من أين أتى الكون؟ ما مصير الكون؟ ما هو الصراع؟ ما معنى الحياة؟ …وأسئلة أخرى كثيرة. حاول الفكر الفلسفي اليوناني الإجابة عليها، قد يكون نجح في الإجابة عن بعضها، والبعض الآخر سقط مع تقدم العلوم، وجزء ما زالت عملية البحث عن إجابة له قائمة.

الأمر الآخر في عصر الفلسفة اليونانية أن الفيلسوف كان ملمّاً إلى حد كبير بعلوم عصره. ولم يكن هناك انفصال وجدار فصل عنصري، كما هو الحال في فلسطين المحتلة، بين العلم والفلسفة. فطاليس فيلسوف وعالم، وكذلك أرخميدس، وكذلك فيثاغورس… أي الفلسفة والعلم كانا غير منفصلين كل منهما يدعم الآخر. فالوصول إلى أن الماء أصل الأشياء، كما يقول طاليس، أتى من معرفة طاليس العلمية لا من تخيّلات لا أسس علمية لها.

مع سقوط اليونان وظهور العصر الإمبراطوري الروماني تدنى الفكر الفلسفي إلى أدنى درجاته، لأن الفلسفة لا قوام لها إلا بوجود الفكر الحر. أي أن العلم أيضاً لا وجود له إلا بوجود الفكر الحر. آمن الإمبراطور الروماني بالفكر المسيحي وفرضها عقيدة الإمبراطورية، فدخلت المسيحية مرحلة السلطة والتمأسس السلطوي. بعد أن تمأسست سلطوياً، بدأت بالاصطدام بالفكر الفلسفي اليوناني بعد أن اُعيد اكتشافه. فحاولت إخضاع هذا الفكر ليكون في مصلحة الفكر الديني، ومبرراً للفكر الديني. فحرم الفكر المسيحي كل فلسفة تتعارض مع فكرة، وحكم بالإعدام، بشتى الوسائل، على كل فيلسوف – عالم خارج الفكر الديني.

من بعدها أتى الدين الإسلامي، وسار في المسار عينه. مع فارق جوهري، وهو أن الإسلام أسس سلطة سياسية، ولم يدخل إلى سلطة سياسية كانت متأسسة. مع انتشار الإسلام وتوسع رقعته إمبراطورية تعرف على الفلسفة اليونانية. فأصابه ما أصاب الديانة المسيحية. فكر يهز أركان الفكر الديني ويسائل الأسس الدينية. فوقع في فخ الفكر الحر. وما صراع ابن رشد والغزالي إلا مثال على هذا. واحد حرم وكفر الفلاسفة، وآخر دعم الفكر الفلسفي.

مع انتهاء العصر الذهبي الإسلامي، نشأ الغرب بنمط إنتاجه الرأسمالي. وعمل على دعم العلم لما في العلم من أبعاد تخدم هذا النمط، فخفت وهج الفكر الفلسفي، من اليوناني إلى الإسلامي. ليصل هذا العلم، مع نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى مراحل متطورة مقارنة بما قبل هذا النمط، لكن كان تقدّمه تقدماً غير سوي لفقدان ركن أساسي من أركانه ألا وهو الفكر الفلسفي. فعاد الفكر الفلسفي إلى الظهور مجدداً مع الفلاسفة ما قبل هيغل، ومن ثم أخذ وهج الفلسفة يعاود الظهور مع هيغل، وغيره. ومن ثم أتى ماركس وإنجلس وكتاب (الإيديولوجيا الألمانية) ليهز أركان الفلسفة الهيغيلية ويؤسس لفكر فلسفي جديد. طبعاً تلاه العديد من المؤلفات، ومنها (البيان الشيوعي)، (أنتي-دوهرينغ)، (ديالكتيك الطبيعة)، (رأس المال) …، وما ميز كل هذه المؤلفات معاودة الجمع بين الفلسفة والعلم.

مع ماركس وإنجلس عاودت الفلسفة صراعها وبشكل علمي في سبيل تحرير الإنسان من عبودية نمط الإنتاج القائم. ومن ثم في بدايات القرن الـ20 ظهرت علوم جديد واكتشافات وضعت الفكر العلمي – الفلسفي أمام أسئلة محرجة. وقد تكون واحدة من أبرز هذه الاكتشافات ما وضعه أينشتاين في نظرياته حول سقوط (إطلاقية) الزمان والمكان. والأمور المتعلقة بفيزياء الكوانتم وهذا العالم الغريب. حاولت البرجوازية إخراج الفلسفة من العلم لكنها فشلت، فكانت الفلسفة لها بالمرصاد وحدث التصادم والصراع بين الفلسفة البرجوازية والفلسفة الماركسية حول هذه الأفكار العلمية الجديدة. وقد يكون كتاب (أينشتاين والمشكلات الفلسفية في القرن الـ20) واحداً من أجمل الكتب المعبرة عن هذا الصراع.

كل هذا حدث ليس بسبب الاكتشافات العلمية فقط، بل لوجود الاتحاد السوفياتي المعبر عن محاولة إيجاد نمط إنتاج بديل عن نمط الإنتاج الرأسمالي.

مع تفكك الاتحاد السوفياتي، عاودت الرأسمالية سيادتها على العالم، وبما فيها سيادتها على الفكر الفلسفي الحر. ففقدت الفلسفة حريتها الفكرية، وهي ركن أساسي من الفكر الفلسفي، وتحولت الفلسفة إلى مجرد علم فرعي متفرع على ذاته إلى حد التيه في فروعه. فأصبح هناك فلسفة للسينما، وفلسفة للكتابة، وفلسفة للعقل و… في محاولة لبتر العلاقة بين الفلسفة والعلم، من خلال حرية الفكر.

لذا كانت الفلسفة الماركسية آخر فلسفة جامعة بين الفلسفة والعلم، وهي الفلسفة بالمعنى الصحيح للفلسفة، من خلال مفهوم تحرير الإنسان من عبودية نمط الإنتاج الرأسمالي، معيدة إلى الفكر الإنساني الفلسفي حريته. وما نشهده اليوم من تفريخ صناعي للفلاسفة ما هو إلا تشويه للفكر الفلسفي وفذلكات لا معنى له، وكل من كتب كلمتين على وسائل التواصل الاجتماعي أصبح فيلسوفاً. وكل من ألف كتاباً تفذلك فيه لغوياً أصبح فيلسوفاً… فالأمر الأساسي في الفلسفي، والفيلسوف، هو تغيير العالم لا توصيفه.

والتوصيف يجب أن يكون علمياً كي يمكن التغيير على أسس علمية، وإلا أصبح التوصيف والتغيير لا فائدة منهما. فأهلاً بعودة العمل على الفلسفة المرافقة للعلوم في الفكر الماركسي كي تعمل على تغيير العالم. فليس فيلسوفاً كلُّ من ادّعى الفلسفة المفرعة والمتفرعة على ذاتها البعيدة عن تحرير الإنسان، ولا حتى متفلسفاً.

العدد 1140 - 22/01/2025