اتكالية تربوية قادتنا للفوضى
إيمان أحمد ونّوس:
إذا أمعنّا النظر جيداً في حال المجتمعات العربية عامة، نستشف أنها مجتمعات ذات نشأة اتكالية في معظم نواحي الحياة، بدءاً من التربية الأسرية، مروراً بالعلاقات الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية.
إذ تساهم طفولة الإنسان الطويلة قياساً لباقي الكائنات مساهمة غير قليلة في هذه الاتكالية التي تعزز جنوحه الفطري للراحة، لذا ترى غالبية البشر يستسلمون لهذه الاتكالية بشكل شبه لا إرادي.
وفي قراءة قدرية خاطئة للدين، اعتاد معظم الناس الاتكاء في مجمل مسيرتهم الحياتية على مشيئة الخالق بتواكل مفعم بالسلبية، دون العمل بالقول المأثور (اعقلها وتوكّل) التي تحضُّ الناس على استخدام العقل والتفكير في التعامل مع أمور الحياة كافة.
ومن أبرز مظاهر هذا الاتكال القدري، تلك القناعة الشعبية الرائجة بالنسبة لكثرة عدد الأولاد في الأسرة، أو حتى رفض تحديد النسل، هي أن الولد يأتي للحياة ورزقته معه، تلك المقولة التي تُحمّل الأسرة أعباءً فوق قدرتها بسبب تلك القناعة الزائفة التي تتقاطع مع بيت الشعر الذي يقول:
لا تكن للعيش مجروح الفؤادِ إنما الرزق على ربّ العبادِ
فهل هنالك من دعوة صارخة للاتكالية أكثر من ذلك، تُعزّز الفقر والتخلّف والجمود؟
ثمّ تأتي نظم وقوانين المجتمع التي تُدعّم هذه الاتكالية والقدرية بدءاً من النظام القبلي- العشائري قديماً (الذي ما يزال قائماً في بعض البيئات) وحتى الأنظمة الحديثة، إذ إنها جميعاً تقع تحت سلطة رجل كبير يُفترض أنه حكيم، يُسَيّرُ جميع أمورها وفقاً لما يراه مناسباً. ولكن ما هي الحال إذا كان هذا السيد غير أهلٍ لقيادة الآخرين!!؟
إنّ الجذور العميقة لتلك الاتكالية تبدأ من الأسرة والتربية، فالأم مسؤولة كلياً عن أمور أطفالها حتى بعد أن يصبحوا قادرين على القيام بواجباتهم، خصوصاً الذكور منهم، فيترعرعون في مناخ مفعم بالاتكالية التي تسم شخصياتهم بميسمها.
ولأن الأب هو ربُّ الأسرة بكل أبعاد هذه الكلمة الاقتصادية والاجتماعية والسلطوية، يكون الآمر الناهي حتى بالنسبة للزوجة التي تتحمل الأعباء الداخلية لهذه الأسرة، فيبقي مسؤولياتها محصورة في إطار الأعباء الخدمية (إطعام، تنظيف… الخ) لأنها بنظره ليست مسؤولة إلاّ أن تكون أماً وزوجة مطيعة.
وفي هذا الإطار كانت الأسرة جميعها وإلى وقت قريب تعيش في بيت واحد، حتى بعد زواج أبنائها، والكلمة الفصل فيها للأب/ الجد في مجمل قضايا الحياة بما فيها اختيار الزواج لهؤلاء الأبناء (ذكوراً وإناثاً).
ولا يفوتنا هنا موضوع دراسة الأبناء، فهي إلى يومنا هذا لدى الغالبية تتحدد باختيار الأهل دون حساب لرغبة الابن أو ميوله، فيكون لدينا خريجون فاشلون على الغالب فيما اختير لهم، وربما يتخلون عن الدراسة لأسباب واهية نتيجة عجزهم عن تحقيق رغبة الأهل.
وهكذا تمتد الحكاية ذاتها لتشمل الحي الذي تكون الكلمة العليا فيه لكبيره (سيد، قبضاي، أو مختار أيام زمان) وهذا ما جعل الناس غير عابئين كثيراً للمشاكل التي قد تعترضهم، أو الحاجات التي تنقصهم لمعرفتهم بأن هناك من هو مسؤول عن إيجاد الحلول المناسبة وطبعاً وفقاً لوجهة نظره هو (السيد) وكم كان الكثير من تلك الآراء غير إيجابي، بل ويُعزّز التخلف في الكثير من الممارسات الحياتية (وهذا ما تؤكده الدراما التلفزيونية).
ومع تطور المجتمعات ونشوء التنظيمات (سياسية، اجتماعية، ودينية… الخ) فإنها قد حملت ذلك الموروث إلى ساحتها، فقد تشكّلت تحت قيادة شخص- أو بضعة أشخاص- هو الذي يرسم سياستها وبرامجها، وقرارته قطعية أو شبه قطعية، وما على الأعضاء إلاّ تنفيذها تحت مسمى المركزية حيناً، أو بحجّة عدم خلق فوضى أو بلبلة في إطار هذا التنظيم أو ذاك حيناً آخر.
وبسبب تأثير هذه القوانين والأعراف الموروثة ضمن هذه التشكيلات (أسرية، اجتماعية، سياسية، ودينية) غالباً ما اعتاد الفرد على عدم إعمال الفكر أو التفكير، لعدم السماح له على اتخاذ قراراته منفرداً، وبالتالي عدم إبداء الرأي والسير بتلقائية سلبية في الحياة، مما عزز خاصية جنوحه للراحة والإتكالية التي فُطر عليها.
وهكذا تتكون المجتمعات من أفراد غير فاعلين، بل مُتلقين وبشكل سلبي لكل ما يُقال أو يُقرر لهم أو يُطلب منهم، ممّا يفسر لنا كثيراً من مظاهر الخلل في بنيتنا العامة كأفراد ومجتمعات، فنحن جميعاً وفي مختلف مجالات الحياة نُعَدّ متلقّين لكل ما يردنا دون النظر ولو قليلاً بماهية ما نتلقاه ومدى تأثيره على شخصيتنا وتفكيرنا (الشائعات أو سواها مثلاً) وهو بالتالي ما جعلنا شعوباً متخلفة في شتى المجالات تقريباً – إلاّ مجال التلقي فنحن بارعون فيه جداً-
وإذا وُجِد بيننا من يُعمل التفكير في بعض القضايا، فإنه إما أن يُعتبر متمرداً على السائد ويُحاكَم بتهم ما أنزل الله بها من سلطان، فيقبع في غياهب زنازين رسمية أو نفسية، وإما أن يكبت تفكيره خشية الأذى أو النبذ الاجتماعي والسياسي والديني، وربما ولكيلا يُنظر إليه على أنه حالة شاذة وسط البيئات والمواقع المتواجد فيها يعمل بالمثل الشعبي القائل: ((إذا دخلت مدينة العوران، ضع يدك على عينك))
هذا النمط السلبي للحياة بكافة اتجاهاتها (دينية، اجتماعية، سياسية، و… الخ) يجعلنا بمنأى عن التطور والتحضّر والمدنية في تفكيرنا وتعاملنا، مع أننا تخطينا عهود القبيلة وغيرها من مراحل اجتماعية، لكنه تخطٍ ظاهري، إذ إن التحضّر والرقي يكون إحساساً بالمسؤولية في صنع الاحتياجات واتخاذ القرارات بالتفكير بدل الاتكال والتواكل والاعتماد كلياً على الآخرين، وعلى من يقودنا ويقرر مصيرنا أو يفكّر عنّا. وبالتأكيد، فإن مجريات العقد الأخير من عمر الشعوب العربية يُظهر بلا أدنى مجال للشكّ أنه، وحينما حاول البعض التمرّد على السائد من علاقات للوصول إلى الحياة الطبيعية المدنية التي تُحقق العدالة الاجتماعية، فإن الرفض المُعلن من قبل القيادات على مختلف مستوياتها وتجلياتها قادتنا إلى فوضى لا متناهية مترافقة مع فقر وجوع وقهر وذلّ لا مثيل له، وبتنا ننتظر مصيراً ما زال حتى اللحظة مجهولاً لنا.