إلى متى هذا التيه.. وإلى أين المفر؟

إيمان أحمد ونوس:

ما يعيشه السوريون اليوم، لم يعِشه أسلافهم حتى أيام السفر برلك، ولم يعشه أيُّ كائن في أيّة دولة أو بقعة في العالم.. ومما يؤكّد قولَنا التصنيفُ العالمي لأسوأ مكان للعيش، الذي تصدّرت فيه سورية المركز الأول دون منازع.

صحيح أن الحروب عندما يطول أمدها، تُقلّص إمكانيات الدولة والفرد على حدٍّ سواء، بسبب التدمير الذي يطول البُنى التحتية وتبعاته المُدمّرة من انخفاض الإنتاجية وتدهور الوضع الاقتصادي على مختلف المستويات، وكذلك ارتفاع نسب البطالة في المجتمع ما يؤدي معها إلى ارتفاع نسب الفقر والمرض وغيرهما الكثير من الآفات الاجتماعية الخطيرة التي تُهدّد كيان الفرد والمجتمع والدولة معاً. فكيف إذا فُرضت عقوبات وحصار دولي طالت حتى لقمة العيش للشرائح البسيطة والمُستضعفة؟

لقد أخبرنا التاريخ عن دول كثيرة تعرّضت لحروب قضت على كل شيء كما في الحربين العالميتين، لكن هذه الدول كانت قد استنفرت طاقاتها البشرية والمادية كي لا تقع في شباك الانهيار التام سواء للاقتصاد أو لمقوّمات الحياة، وذلك من خلال حكومات لم تتعامل مع واقعها كما كانت زمن السلم، بل شكّلت ما يُسمّى بحكومة الأزمة، التي فرضت خططاً وبرامج تناسبت وواقع الحرب والأضرار التي لحقت بالدولة ومواطنيها، وعملت بالمثل القائل (إذا هدرت المدافع أديروا المصانع) وذلك لتعويض الأضرار والوقوف في وجه الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.

لكن، إذا ما نظرنا إلى واقع الحال السوري ومنذ أكثر من عقد من الزمن، نجد أن حكوماتنا المتعاقبة منذ بدء الحرب حتى اليوم، لا يكفي أنها ما زالت تتعامل بالذهنية ذاتها والآلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب، بل إنها ضاعفت كل ما من شأنه أن يقوّض إمكانية صمود البشر في وجه الحرب وتبعاتها المرعبة (ونقول البشر لأننا، في نظر تلك الحكومات، لم نعد مواطنين)، فكان أن رفعت الدعم عن العديد من الاحتياجات الأساسية ابتداءً من رغيف الخبز الذي بات الحصول عليه هاجساً وقلقاً لا مثيل له في ظلّ التجارب المُتعدّدة للمسؤولين عن البطاقة الذكية التي حاصرت عموم السوريين في كل مستلزماتهم. وكذلك وقود التدفئة والزراعة والنقل الذي صار الحصول عليه أشبه بسراب خادع، كما أن تكلفته على الناس تضاعفت إلى مستويات قياسية لم يعد بالإمكان اللحاق بها، وصولاً إلى غلاء فاحش اغتال كل إمكانية للبقاء على قيد حياة هي أشبه بالموت، فقط لإرضاء ثلّة من تجّار الأزمات والحروب ومُتنفّذين حصدوا غنائم حرب خيالية وما زالوا، وليس انتهاءً برفع أسعار العديد من الخدمات التي يجب على الدولة تقديمها لمواطنيها لاسيما في ظلّ ظروفنا الحالية. ولا يفوتنا القوانين والتشريعات، لاسيما الضريبية المُستحدثة والتي طالت وحاصرت الشرائح الأضعف في المجتمع، إذ لم يعد يقتصر الأمر مثلاً على ضريبة النظافة المفروضة على فواتير الكهرباء والماء والهاتف في حين تعجُّ شوارع المدن والبلدات بالقمامة تحت ذريعة نقص الكوادر في البلديات، أيضاً هناك ضريبة الرفاهية والإنفاق الاستهلاكي المفروضة على مختلف الخدمات والاحتياجات والتي طالت حتى سندويشة الفلافل مُضافاً إليها ضريبة إعادة الإعمار، وهذه أقلُّ الضرائب التي لا يمكننا حصرها هنا رغم ما أقرّه الدستور في الفقرة الثانية من المادة 18 التي تنص على:

2- يقوم النظام الضريبي على أسس عادلة، وتكون الضرائب تصاعدية بما يحقق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية.

فضلاً عن ارتفاع قيمة فواتير الماء والكهرباء والهاتف والاتصالات كافة في الوقت الذي نسي فيه غالبية السوريين بعض هذه الخدمات الحكومية لأنهم يحصلون عليها من سماسرة لا يمتلكون ذرة ضمير إنساني حين يضاعفون الأسعار لمستويات جنونية سواء لسعر الماء أو لاحتياجات الإنارة شبه المنعدمة.

بالتأكيد، في حال مثل حال سورية، لا بدّ من اتخاذ إجراءات تعمل على تمويل خزينة الدولة لكي تستمر في عملها، لكن أن يقتصر الأمر على الشرائح الأدنى والأضعف في المجتمع، مقابل تسهيلات غير منتهية لأصحاب رؤوس الأموال والصناعيين والتجّار الذين لا يتوانون لحظة عن رفع أسعار منتجاتهم وبضائعهم حين يرتفع سعر الصرف، بينما الرواتب والأجور ما زالت دون الحد الأدنى المطلوب لتلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، كالخبز والدواء الذي بات شبه منسيّ للكثيرين رغم ضرورته لعدم القدرة على اللّحاق بأسعاره التي ترتفع ما بين حين وآخر، دون النظر إلى وضع ملايين الفقراء الذين باتوا أغلبية في المجتمع السوري، وبعيداً عمّا نصّت عليه المادة 22:

1- تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليُتم والشيخوخة.

2- تحمي الدولة صحة المواطنين وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي.

فلماذا تتعامل الحكومات مع الناس وكأنهم المسؤولون عن كل ما جرى، وبالتالي يجري عقابهم بطرائق تحمل الكثير الكثير من الذلّ والمهانة؟! أهذا ما نصّت عليه الفقرة الثانية من المادة 13 من الدستور التي تنص على:

2- تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

فإلى متى هذا التيه؟ وإلى أين المفرّ يا حكوماتنا الموقّرة؟؟

العدد 1140 - 22/01/2025