قصة قصيرة | أنا وقطتي

بشار حبّال:

ربما كنت في السادسة أو السابعة من عمري حين عثرت على قطة صغيرة في أحد زواريب المدينة، لونها أسود مثل ليل بهيم، حملتها وأخذتها معي إلى البيت، والفرحة تملأ قلبي، وأصبحت قطتي المدللة وسلوتي لسنين عديدة. تنام إلى جانبي كل يوم حتى إنها ولدت في إحدى المرات في فراشي، معها وبسببها خضت العديد من المغامرات الطريفة بعقل طفل امتلك شيئاً غير عادي.

 

البداية

في الليل لا يمكن التفريق بينها وبين الجربوع (الجرذ)، مما دعا الحجّة سميّة، جارتنا وقريبتنا، إلى التعوذ بالله، هي جنّي متخفّي بشكل قطة ولا شعرة واحدة فيها بيضاء؟ الحجة سمية، التي تخفي تحت فستانها جيباً من القماش يشبه جيب الكنغر تخبئ به السكاكر والبزر وعلبة الدخان المعدنية، أورثتني مرض البهاق والشكّ الذي كان يزرع الرعب بقلبي خاصة حين تنام قطتي إلى جانبي كل ليلة، أفتش كل يوم عن شعرة بيضاء لأطرد جنّي الحجة سمية، فأجد تلك الشعرة أحياناً ولا أعثر عليها أحياناً أخرى، حبي للقطة كان يطرد الشكوك من رأسي، فتعود الحجة سمية وتذكّرني بالجنّي المتقمّص في شكل قطة، وأمام إصراري على التمسك بالقطة قرّرت الحجّة اختبارها: هل الجني المتقمص مسلم أم كافر؟ (وكيف لي أن أعلم أن الجن مسلمون وكافرون؟) أمسكتُ القطة من أذنيها (بناء على مشورة الحجة سمية) ورفعتها عالياً، فرفعت القطة يديها للأعلى وصاحت بصوت خافت نياو.. نياو.. نياو! فرحنا أنا والحجة سمية بنجاح القطة في الاختبار وقالت:

إنه جني مسلم، فقد رفعت القطة يديها للأعلى وهو دليل الشهادة ونطقت بذلك أيضاً: نياو.. نياو!

 

شغب

البناء القديم والمبني على طراز المستعمر الفرنسي والذي ينفتح زقاق بيتنا عليه، هذا البناء كانت تشغله شعبة التجنيد، ومنه كان يساق المجندون إلى خدمة العلم، وعند سحب كل (قرعة) للمجندين كان يتجمع أمام زقاقنا كثير من الناس من المدينة والريف بأشكالهم المتنوعة، شباب بعمر الجندية تتجمع حولهم كل العائلة لوداعهم في أول مغامرة ومغادرة لحضن العائلة. في موسم الزحام هذا كان يطيب لي أن أمارس كل العبث مع شريكتي القطة، فأعلّق برقبتها حبلاً رفيعاً وبطرفه خطاف ناعم، ثم أبحث عن ضحيتي بين الجموع المتعبة من الانتظار وشمس الظهيرة الحارقة، كل رجل غافٍ وعلى رأسه حطّة هو ضحيتي، أعلّق طرف الخطاف بحطّته وأترك القطة لتقوم بالباقي، وقبل أن يصحو الضحية من غفوته تكون القطة في البيت، والضحية حاسر الرأس لا يعرف أين ذهبت حطته.

 

الدرس الأول

في ليلة من ليالي شباط اكتشفت لأول مرة أن قطتي تمارس الغرام مع قطّ غريب في إحدى غرف البيت! لم أستوعب ما كان يجري ولماذا القط الغريب يعتلي ظهر قطتي ويعضّها بأسنانه بوحشية وهي مغمضة العينين وفي حالة استسلام كامل، عدوان واضح وصريح، غاشم ولئيم على ملكيتي، أغلقت باب الغرفة وبدأت بضرب القط بكل ما يقع بيدي والقط يقفز من مكان إلى مكان مع مواء القط المحاصر في مكان مغلق وتكشيره، الضجيج من المعركة بيني وبين القط أيقظ أمي من النوم، وحضرت إلى المكان وفتحت الباب على مصراعيه، فهرب القط بلمح البصر وقالت لي:

يا بني، لا تحاصر القط لأنه يمكن أن يقتلك دفاعا عن روحه! ربما كان أول درس في حياتي تعلمته من أمي.

 

النهاية

بعد عدة سنوات غادرت الطفل الصغير، وشغلتني أمور الحياة لشاب يريد اكتشاف العالم، وبدأ يهتم بالرياضة والسياسة، وفقدت شغفي بقطتي، كما أن أخي أحضر إلى البيت طيوراً لتربيتها، وقطتي ليست معتادة على وجود كل هذه الغنائم حولها، فكان لا بد من ترحيلها بعيداً، أخذتها أول مرة إلى حارة أخرى بعيدة عن بيتنا وتركتها أمام أحد البيوت المفتوحة حزيناً بعض الشيء وأنا ألتفت إليها كلما ابتعدت عنها حتى غابت عن نظري، وخلافاً لتوقعاتي عادت القطة في المساء ذاته. مرة جديدة أخذتها إلى أقصى المدينة وبعيداً جداً عن بيتنا، ويا للغرابة! بعد عام كامل استيقظت على موائها على أحد الجدران، قفزت من فراشي وناديتها، فهرعت إليّ، فضممتها إلى صدري ودموع شفافة انحدرت على وجنتي.

ماذا سأفعل بها مع إلحاح أخي وأبي في (تدفيرها)؟ وضعتها في كيس خيش كي لا ترى الطريق (هكذا قدّرت) وخرجت إلى أطراف المدينة، فمرّ بجانبي فلاح يسوق عربة خشبية بعجلاتها المعدنية، وضعتها في الصندوق دون علمه وعدت إلى البيت أنتظر عودتها التي لن تأتي، ربما (بل متأكد) أنها عادت في نهاية قصتي، ها أنا أسمع مواءها من جديد.

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025