الفقر ما بين تسويق المحتوى وحفظ القيم.. من يغلِب؟

نور سليمان:

الأزمةٌ السّوريّة خلّفت الكثير من النّتائج السّلبيّة على الفردِ والمجتمعِ بجميعِ أطيافهِ، فقد باتَت الأزمة الاقتصادية والفقر أولى النتائج وأكثرها انتشاراً، وإلى الآن لم تستطع الحكومة الحدّ منها ومعالجتَها بالطّريقة السّليمة، فالمخاطر التي تواجهُها فئاتٌ مختلفةٌ من المجتمعِ السّوريّ شكّلَت حرماناً واسعاً متعدّداً وفارقاً طبقيّاً بين المحافظاتِ أو ضمن المحافظةِ الواحدة، وللأسف أصبحَت هموم المواطنِ والفقر الذي يعاني منهُ برنامجاً لشهرةِ البعض وحالة للابتزازِ العاطفيّ، فالإنسانيّة التي يمثّلها أغلب من يتّجه لعرضِ حالاتِ الجوعِ والوجعِ والحرمان هدفها الرّئيسيّ كسب التّعاطفِ و(التّريند) المُخادع الذي أصبحَ المتلازمة الأشهر في العالمِ العربيّ، فوسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ باتَت تنافسُ المحطّات التلفزيونيّة، والمسرحُ الأهمّ هو الشّارع الذي يمثّل الواقعَ، والمصّادفة فقط هي من قد تجعل الشّخص مادّة وفريسة دسمة لمثلِ هذه البرامج، حيثُ يصطادُ صاحبُ النّشاطِ بخبثٍ ومكرٍ مشاركِيه ممَّن يجدُ فيهم أفضلَ أداةٍ لإيصالِ رسالتِه.

لقد اتخذت هذه البرامج في ظاهرِها فقط الطّابعَ الإنسانيّ، فهي تهدف إلى تقديم المساعدة الماديّة والعينيّة لشخصٍ محتاج، إلَّا أنَّ الطّريقة المُتّبعة في هذه البرامج وفي عملية اختيار المشاركين تؤكّد أنَّ الغاية الأساسيّة منها ليست سوى التّلاعب بمشاعر البشر، والمتاجرة بجراحات النّاس الفقراء تحت مُسمَّى (المساعدة الإنسانيّة)، وأحد هذه الأشكال التي تصدّرت برنامجه العالم الافتراضيّ وساهمَ في إثارةِ بلبلةٍ كبرى بعدما تجوّل في شوارعِ العاصمة وعرضَ نفسَه على هيئةِ القدّيسِ الذي يريدُ إنقاذ النّاس، كانَ اليوتيوبر (يوسف قباني) فقد صوّرَ حالات الأشخاص ومرارةِ أيّامهم وحاجَتهم إلى المالِ بطريقةٍ مثيرةٍ للاشمئزازِ، ومهينةٍ للنّاسِ ولكرامَتِهم، مستخدماً أسلوب التّعاطف الكاذب والمبالغ فيه، وقد لاقى انتقاداتٍ كثيرة بعدما نشرَ فيديو له على صفحته وهو يرتدي ملابسَ رجلِ دين (شيخ)، وهو يسألُ النّاس في شوارعِ دمشق عن أحوالهم، فقد اضطرَّت امرأةٌ لإبراز ورقة تثبت وضع زوجها الصّحي، واعتبرَ النّشطاء أنّ ما قام بهِ قباني بعيد كلّ البعدِ عن الإنسانيّة، ومُهين، ويهدفُ إلى جمع مشاهدات على حساب حاجة النّاس.

وفي الوقت ذاتهِ انتشرَ مؤخّراً على مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ حالاتٌ من الموسمِ الثّالث لبرنامجِ (النّاس لبعضها) الذي يقدّمه الإعلاميّ (شادي حلوة)، والذي لاقى صدىً واسِعاً ووجهاتِ نظرٍ متباينةٍ، في طريقةِ تقديمِه للمساعدةِ واختيارِه المناطِق، فيقوم بطرحِ أسئلة على الشّخص الذي اختاره من قبيل: 1+1 كم يساوي؟! ثم يمنحهم الجوائز الماديّة مقابل مثل هذهِ الأسئلة التي يحاولُ من خلالِها تقديم المساعدة دون إحساس الآخرين بالذّلّ، وآخر ما استوقَفنا وتصدّرَ الحديث كانَت السّيّدة (أمّ سليمان) التي مثّلَت وعبّرت عن كلِّ مواطنٍ شريفٍ وعفيف وفقير لا يملِكُ إلّا كرامته وعزّة نفسِه في هذه الحياة.

أثناء تصوير (حلوة) في مدينة صافيتا التقى هناك السّيّدة أم سليمان وكعادتهِ سألها السّؤال الذي سيقدّمُ لها المال من خلالهِ، ولكنّ عفويتها وطيبتها استوقَفته وحاولَ تقديم الكثير من الأموال إليها، لكنّها رفضت أخذ جميع ما عرضَهُ عليها على اعتبارِ وجودِ أشخاصٍ آخرينَ فقراء وبحاجةٍ للمساعدةِ، حيث قالت:

(أنا شو بدي قول لولادي من وين جبت المصاري)!

لكن ومع إصرار شادي حلوة قبلت بالمبلغ، وقالت أإنّها ستشتري به غسّالة لعدم امتلاكها واحدة.

وفوجئنا لاحقاً بتقديمِ شخصٍ من مدينةِ حمص غسّالة كهديّة إلى السّيّدة التي أبدى الجميعُ محبّة كبيرةً لها وإعجاباً بكرامتِها ومراعاتِها وتفكيرِها بغيرِها، ما يجعلُنا نقفُ لحظةً عند المحبّة التي لا تزالُ موجودةً في قلوبِ أبناء الشّعبِ السّوريّ رغمَ الدّمار النّفسيّ، والجسديّ، والأزماتِ المتتالية، والقرارات المجحفة بحقّه.

لكن مثلَ هذهِ البرامج رغمَ أهميّتها إلّا أنّها ليسَت حلّاً دائماً للفقرِ ولمشاكلِ النّاس، فهيَ ترسمُ ابتسامةً مؤقّتةً على الوجوهِ، فالفقرُ يحتاجُ حلّاً جذريّاً وقراراتٍ واعيةً، تلتمسُ بها الحكومة ما يعانيهِ المواطنُ يوميّاً من غلاءٍ في الأسعار، وقلّة الرواتب، وعدم قدرتهِ على تأمين مستلزماتِ الحياة الأساسيّة، فالقرارات اليوم باتَت تنهشُ لحمَ وكرامةَ المواطنِ السّوريّ الذي فقدَ ثقتَه بحكومتهِ، وبتحسّن الأوضاعِ لاحقاً، ذلك أنّه يرى كلّ يومٍ أسوأُ من قبلِه، ففي سورية اليوم لا يعيشُ سوى الأغنياء ولا يموت سوى من فقدَ الأملَ والحياة.

لذلك يجبُ على الحكومةِ إيجادُ حلولٍ صارمة جذريّةٍ متغيّرة تراعي مختلفَ فئاتِ المجتمعِ، من خلالِ توفيرِ الوظائفِ، ووضعِ حلولٍ بديلة للأزمات، وتنفيذ استراتيجيّات لتحسينِ الظّروف المعيشيّة، وزيادةِ دخلهِ، وأهمّها إزالةُ العوائقِ وليسَ رسمَها.

العدد 1140 - 22/01/2025