الدّور الأساسيّ للأخلاق في عملية البناء والتّفكّك المجتمعي
نور سليمان:
لَم يعد خافياً على مجتمعاتِنا العربيّة وخاصّةً السوريّ في الآونةِ الأخيرة التّراجع الأخلاقيّ الذي ضربَ عمقَ الأسرةِ، حتّى باتَت سلوكيّات الكثير من الأفراد غير مقبولة. ولِنكن أكثرَ دقّة، فنحن لم نعتدْ على سماعِ أحداثِ القتلِ، والانتحار، والحرق يوميّاً كما يحصل في يومنا هذا، ومن وجهة النّظرِ الشّعبيّة ونتيجة الظّروف الرّاهنة انشغلَ الأبوان في تلبيةِ حاجاتِ أطفالهمَا، فابتعدا قليلاً عن دورهمَا الأكبر في التّنشئةِ والاهتمامِ الصّحيح، نتيجة ضغوط الحياة والسّعي لتحسين الدّخل لتوفيرِ الحدّ الأدنى من متطلّبات أفراد الأسرة الماليّة، ومع الأهمّية البالغةِ للعملِ من أجلِ الحصول على المال الذي به تنتظم حياة الأسرة، إلّا أنّه يغيب عن كثيرٍ من الأهلِ مسؤوليتهم في الرّعايةِ التربوية والتوجيهية والرقابية لأبنائِهم وبناتِهم، ففي الماضي كانَت العائلة تجتمعُ على مائدةِ الطّعام، وحولَ التّلفاز، تدورُ بينهم نقاشاتٌ حولَ الحياةِ، الزّواج، الحبّ، الدّراسة، والمشكلات التي تعترضُ حياتهم، مع الحرصِ على غرسِ المحبّةِ والقيمِ في نفوسِهم وعقولِهم، ولكن مع تطوّرِ الحياة والتّكنولوجيا باتَت وسائل التّواصلِ الطّريقة الأسهل للتّواصلِ.
من اللّافتِ للنّظرِ اليوم هوَ ما يعانيهِ المجتمعُ السّوريّ من انهيارٍ واضحٍ وملموسٍ في المنظومةِ الأخلاقيّةِ والنّفسيّةِ التي تُعدّ مركزاً مهمّاً في سلوكِ الأفرادِ، فالقِيَم صفة مكتَسبة، ولعلَّ ما آلَ إليه المجتمعُ هو نتاجُ الحربِ والفوضى العارمة التي سبّبت دماراً نفسيّاً وجسديّاً فكانت إحدى مفرزاتهَا ونتائجِها الخاسرَة هي الخللُ العقيمُ في السّلوكِ غير الطّبيعيّ لبعضِ الأفراد، والذي يبرّروه للاستمرارِ في شَرعنةِ العنف.
لماذا تختفي الأخلاقُ في زمنِ الحروب؟ تهدفُ الحروب بشكلٍ خاصّ إلى زعزعةِ النسيجِ المجتمعيّ، والبنية المتمثّلة بالأخلاق والتعليم، فهي المعوّل الأكبرُ في بناءِ الدّولةِ الصحيّة بعدَ الحرب، إضافةً إلى زعزعةِ الاستقرارِ الأمنيّ، تشويهِ الدّين، تدميرِ البنى التحتيّة، وإفسادِ المنظومةِ التّعليميّة، والأهمّ من ذلك هوَ العمل على إذكاء النّعرات الطّائفيّة والعصبيّات التي تعتبرُ أفيونَ الأفراد منذ القدم فما إن تغفو قليلاً حتّى يُعادُ إيقاظها وتغذيتهَا بالكثيرِ من الحملاتِ الإعلاميّة والمواقفِ الشّخصيّة، والأخبار المدجّجة بالكذب.
الانهيار الأخلاقيّ بعد سنواتِ الحربِ في سورية نتيجةً طبيعيّة وحتميّة، ولكن ما يُثيرُ الاستغرابَ ويزيدُ علامات الدّهشة هوَ تسارعُ وتيرة انهيارِ القيمِ وحالاتِ القتلِ التي تحصلُ ضمنَ أفرادِ الأسرةِ الواحدة، حتّى باتَ القتلُ سهلاً كشربِ الماء. فحسب تقاريرِ (منظّمة حقوقِ الإنسان) أصبحت سورية مركزاً للخطفِ والدّعارة وخطفِ وبيعِ الأطفال، والاتجارِ بالأعضاءِ البشريّة، وتداعي المشافي الحكومية والكشفِ عن استعراض لعصاباتِ تهريبِ الأطفالِ تدارُ من قبل ممرّضين وأطباء، كذلك ارتفاع معدّل البطالة بين الشّباب، كلّ ذلك أدّى إلى فقدانِ الفردِ ثقتهِ بمجتمعهِ، وباتَ بنظَرهِ مجتمعاً مفكّكاً مريضاً هشّاً، يعاني من الانحلالِ في البنى الأخلاقيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، كما أنّه بؤرةً للفسادِ والفوضى وعدم الأمان، فقد أصبحَ الخوف جزءاً لا يتجزّأ من الحالةِ النّفسيّةِ للفردِ إن كانَ في منزلهِ أم في الخارج. لا تكاد تخلو أخبار البلدِ من الحوادثِ والجرائمِ وحالاتِ القتل التي تنتشرُ في شوارعِ العاصمةِ دمشق والمحافظاتِ السوريّة، بشكلٍ علنيّ دون حسابٍ للنتائجِ أو التفكيرِ مسبقاً بما ستؤولُ إليهِ مثل هذه الأفعال، ففي ضوءِ تدهورِ الأوضاع المعيشيّةِ باتَ قتلُ أحدِ الأبوين أمراً بسيطاً وسهلاً مُستساغاً لدى البعض، فكيفَ لذلكَ الابن قتلُ والدهِ ببرودةِ دمٍّ، وكيفَ للمالِ أن يغسلَ العقلَ والقيمَ؟! ربّما للحربِ والأوضاعِ ذلك الأثر الكبير الذي جعلَ النّزعةَ الفرديّة تتغلّبُ على الأخلاقيّة، كما أنّ السّفر والخروج من هذه البقعةِ الجغرافيّةِ أصبحَ حلماً يصعبُ تحقيقه في ظلّ انعدامِ المالِ، وسبل السّفرِ الصّحيحة، ووجودِ الطّرقِ الصّعبة التي يتحكّمُ بها أشخاصٌ لا يهمّهم سوى المال وربّما يهدفونَ إلى الاتجارِ بالأعضاءِ مستغلّينَ حاجةِ الشّبابِ.
مهامٌ جِسام تُلقى على عاتقِ الدّولة والأفرادِ وكلّ الجهات المعنيّة للشّروع في مرحلةِ تضميد جراحِ السّنواتِ العِجاف، فالحالةُ الأخلاقيّة في العناية المشدّدة ولن ينعشها سوى العمل الدّؤوب مستنداً في ذلك على الاستخلاصاتِ المُرّة أثناء الحرب، فبالنّهايةِ لا يمكِنُنا فصلُ الأخلاقِ كقيمةٍ أساسيّة لبناءِ العلاقات والأساسِ الصّحيحِ للمجتمعاتِ، كما أنّها منصّةُ الانطلاقِ للإصلاحِ والبناءِ والتّطويرِ من جديد إذا كانَ هنالكَ أملٌ في المحاولةِ.