طاقات هدّارة تتوه في ظلام دامس

إيناس ونوس:

لأن الوضع لا يزال كما هو، ولا تغيير في الأفق إلاّ بما يوحي بالمزيد من القهر والإذلال، والمزيد من الضياع لأكبر شريحة في المجتمع، فضّلت أن أعيد ما سبق أن بُحتُ به سابقاً، كدليل على تمسكنا بالأمل أن يكون الغد أفضل، فهل ما زلنا نمتلك هذ الحق؟

تعتبر مرحلة الشباب من أجمل المراحل العمرية التي يمرُّ بها الإنسان طيلة حياته، نظراً لكونها المرحلة الممتلئة نشاطاً وحيويةً على كل الصعد النفسية والفيزيولوجية والفكرية والعاطفية، هذا النشاط والتألّق مردُّهما إلى الرَّغبة باكتشاف الحياة بكل جوانبها لا سيما كل ما هو مجهول أوغير مألوف فيها، ولهذا يمتلك الشباب أفكاراً تختلف كثيراً عمّا هو سائد في المجتمع، وبالتالي يسعون لتحقيقها وتحويلها واقعاً يستحق أن يعاش من وجهة نظرهم.

هذا التجديد في الأفكار والرؤى السائدة، هو أكثر ما يميّز سنّ الشباب عن باقي سنوات العمر، ولا سيما في مراحلها الأولى _ سنّ المراهقة _ حيث يلعب الفضول للمعرفة وحب الاطلاع دوره، والسعي للتجريب، بحثاً عن الذات وعمّا يمكن أن يناسب شخصية الشاب أو الفتاة، لهذا نجده/ا في حالة من التخبّط تظهر لنا نحن البالغين على أنها مرحلة ضياع وتشتّت في الطاقات، ومهما حاولنا أن نصوب الأهداف ستجد محاولاتنا الرفض أو التصدي على أقل تقدير، ذلك أنهم يرغبون بالاستكشاف بأنفسهم وكلهم قناعة أنهم على علمٍ أوسع ممّن يحيطون بهم، فمنهم من يتجه لتنمية مواهبه على تنوعها سواء بالموسيقا أو الرقص أو الرسم وما شابه، وبعضهم الآخر ينحى باتجاه العلوم فيلتقط كل ما هو جديد في هذا المجال، بينما تأخذ الموضة في الفن أو الأزياء أو، أو… قسماً منهم، فيما يلتفت آخرون للأحزاب السياسية، ذلك أن الأفكار والشعارات البراقة تؤثّر فيهم بطريقة قوية لدرجةٍ يظنون معها أن بمقدورهم تغيير العالم من خلالها، فيما نجد بعضهم الآخر يتجه نحو التيارات الدينية، وكل هذا على سبيل المثال لا الحصر.

يخرج الإنسان في مرحلة الشباب إلى الحياة وكأنه يمتلك الدنيا بشتى تفاصيلها، وبحكم حماسه واندفاعه اللذين تتسم بهما مرحلته العمرية فإنه يسعى جاهداً لتغيير جملة المنظومات الفكرية والقيمية والمجتمعية والسياسية التي نشأ خلالها، منطلقاً من وجهة نظره التي يبدأ بتشكيلها وتكوينها من خلال تجاربه الخاصة. وعلى هذا، فإنه بأمسّ الحاجة للعيش ضمن بيئة مبنية أساساً على أرضية صلبة متماسكة تساعده على تطوير مكنوناته وأفكاره تلك، بكامل القناعة بضرورة اختلافه عنها، مترافقةً مع رعاية واهتمام مكللين بالحب الصافي النقي والخالص.

غير أن الواقع بشتّى مناحيه يفرض نفسه في غالب الأحيان، فكم من شباب يمتلكون من المؤهلات والطاقات الكثير الكثير إلاّ أنها لم ترَ النور أبداً، بحكم الظروف التي عاشوا في كنفها، وتحديداً الوضع الاقتصادي! فالوضع المعيشي يفرض على الشباب هجر دراستهم والبحث عن عمل يعيلون به أسرهم، فهو من أهم الأسباب التي تئد تلك المؤهلات والطاقات، ولا سيما في أيامنا هذه وتجبر الإنسان على العمل والبحث عن عملين أو ثلاثة إضافيين، إضافة لواقع التعليم المُتردي أيضاً والذي لا يساعد المتميزين على إبراز ذواتهم وإمكانياتهم بل يدفعهم دفعاً للهجرة من أجل البحث عمّن يساعدهم في تحقيق طموحاتهم، يُضاف إلى كل هذا وذاك الوضع الصحي حالياً الذي قضى على كل ما لم يكن بالحسبان.

كم تحتاج هذه الشريحة من المجتمع للاهتمام والرعاية والعناية، لا سيما من أصحاب القرار والمسؤولين، لأن الربط والحل بيدهم وحدهم، وتحديداً بعد سنوات الحرب اللعينة وما نحن فيه بعدها، فإعادة ترميم الأرواح والنُّفوس أهم بكثير من إعادة ترميم الحجر، لأنها جزء من البنية التَّحتية المطلوبة لبناءٍ صحيحٍ وحقيقي للمجتمع ككل، فالبناء الصَّحيح للإنسان يؤدِّي بالضَّرورة لبناءٍ حقيقي للمجتمع والدَّولة، أمّا إن غاب الإنسان من أولويات إعادة البناء كما يحدث على أرضنا، فلن تكون النَّتائج بالشَّكل المطلوب، ذلك أن نهضة وبناء المجتمعات على مرّ الزَّمان تقوم على العناصر الشَّابة لكونها الأكثر ديناميكيةً وقدرةً على تلقُّف كلِّ ما هو جديدٍ ومتطور، لهذا يُعتبر زجُّ الشَّباب في بناء مجتمعنا بغية تطوُّره وتقدُّمه أهم الأولويات حالياً، ورغم كثرة التَّصريحات الهادفة للإفادة من الطَّاقات الشَّبابية وإمكانيَّاتها، والتي تتعالى مؤخّراً، ومع تأييدنا وبشدَّة لهذه التَّصريحات، يتبادر لأذهاننا سؤالٌ عن ماهية جدِّية العمل بها، أم هل ستبقى مجرَّد تصريحات إعلامية لغاياتٍ لا ندري بها ولن ندري؟

العدد 1140 - 22/01/2025