التكافل العائلي.. وهناً على وهن

حسين خليفة: 

تأتي أهمية العلاقة بين الأبوين والأبناء من أهمية العائلة كبنية أساسية ومهمة من بُنى المجتمعات المعاصرة في مجتمعاتنا على الأقل، رغم أن الإشارات قوية جداً لتراجع دور وأهمية العائلة لصالح الفرد في المجتمعات المتقدمة، بل إن دور وأهمية الفرد باتت الهاجس الأول لهذه المجتمعات على حساب البُنى الآيلة للانقراض(قوميات، عقائد وإيديولوجيات، عشائر….)، ولأن مجتمعاتنا الشرقية لم تقطع بعد مع هذه البُنى وما زالت متمسكة إلى حدٍّ كبير بها، بل تُقدّسها في كثير من الحالات، وتُعاقب من يخرج عليها بالحَجْر والقتل أحياناً(اقرأ حالات التكفير الديني والإيديولوجي والتخوين السياسي لكل من يحاول الخروج من حظائر الماضي)، فإننا مضطرون إلى محاولة قراءة الالتباس الحاصل في العلاقة بين أطراف عدّة ضمن العائلة، الأب والأم، الأب والأبناء (ذكوراً وإناثاً)، الأم والأبناء، الذكور والإناث (الإخوة) ضمن العائلة الواحدة…. الخ، مضطرون للتعامل مع هذا الواقع ومحاولة تحسينه إلى أن تضع مجتمعاتنا أقدامها في طريق التحرر من المفاهيم والبُنى التي لا بدّ أن ترحل يوماً ما، لصالح بُنى وعلاقات جديدة هي جزء من صيرورة تاريخية اجتماعية لا فكاك منها.

أدعي أن ما يقدمه الوالدان للأبناء هو واجب وَرَدُّ دين لما فعله والداهما معهما، أيّ لا منّة في ذلك، فكل جيل يحاول أن يُهيئ للجيل الذي يليه مقومات حياة أفضل، لكن هل يكون جزاؤهما التجاهل والإهمال ومعاملتهما ككائنين ينتميان إلى زمن فائت ولا جدوى ولا ضرورة لسماع آرائهما في أيّ شأن من شؤون البيت والعائلة والمجتمع والحياة عموماً؟؟

هذا السؤال الجوهري في هذا السياق كما أرى، وبسببه يحمل الأبوان سلاحهما الأمضى وورقتهما الأقوى في وجه نشوز الأبناء، إن صحَّ التعبير: ألم نقم بتربيتكم وتنشئتكم وتعليمكم حتى كبرتم ونبتت أجنحتكم لتردّوا علينا بهذا التجاهل واللامبالاة؟؟ ولديهم أساطيل من الحكم والمواعظ والآيات والأسفار التي تحضُّ على طاعة الأبوين (ولا تقل لهما أُفٍّ، ولا تنهرهما، وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرا).

ويكون جواب الأبناء ولو صمتاً: قمتم بما عليكم، آباؤكم فعلوا الشيء ذاته معكم، والحبل على الجرار.

وكلاهما يحمل في منطقه جزءاً من الحقيقة.

الآباء يتحدثون بمنطق ولغة جيلهم الذي رُبّوا عليه، والأبناء يتحدثون بمنطق عصر دخلوا فيه على حين غرّة دون أن تتهيأ المقدمات التي تهيأت للمجتمعات المتقدمة لبناء منظومات قيمية جديدة على أنقاض المنظومات القديمة، فكان المجتمع يخلق البنى التي تأخذ الكثير من دور العائلة سواء من جهة الرعاية الصحية والثقافية للمسنين، أو لجهة تأمين المؤسسات التي تبني الطفل وتؤمّن احتياجاته كافة.

الأمر مرتبط بعوامل عديدة مثل البيئة الاجتماعية (مدنية أو ريفية، محافظة أم منفتحة، متعلمة أم أمية… الخ)، ومن تجربة شخصية للمحيط القريب والبعيد أقول: ما زلنا في (منزلة بين المنزلتين)، فلم ينقطع بعد الحبل السري الذي يربط الأبناء بالأبوين طاعة وعناية واهتماماً، لكنه أصبح ضعيفاً وواهياً في كثير من مفاصله، وهي سمات العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة الأفول، وهكذا لن نجد في وقت قريب، وربما بعد جيل أو جيلين مشكلة في خروج الأبناء من أسر العائلة حالما يشبّون عن الطوق، مع تكفّل المجتمع وهيئاته الأهلية برعاية الجميع، ونمو دور مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتأمين والصحة.

العدد 1140 - 22/01/2025