لوحات الفنان أحمد معلا:تحليق بصري في مقامات السرد المسرحي لشخوص مكوناته

ولد الفنان التشكيلي السوري أحمد معلا في مدينة بانياس عام ،1958 وتخرّج في قسم الاتصالات البصرية بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام ،1981 وحصل على دبلوم المدرسة الوطنية العليا لفنون الزخرفة في باريس عام 1987 ، ثم عمل في حقل التدريس الجامعي بكلية الفنون الجميلة بدمشق 1989- 1996. وغادر الكلية بعد أن اكتشف حريته الشخصية ورؤيته التعبيرية الذاتية المتجاوزة حدود الوظيفة وإيقاع الروتين، ودخل في عالم ابتكاره، المتعدد الصنائع والتقنيات، مصمماً للسينوغرافيا الدرامية التلفزيونية وللعديد من أغلفة الكتب والملصقات الدعائية الثقافية  منها والتجارية.

 يُعد معلا حالة من حالات  الاستثناء بين أقرانه في الحركة الفنية التشكيلية السورية، بصفته الأكاديمية الطموحة وكصاحب مشروع في الفن التشكيلي المعاصر. وله رؤى فكرية وأساليب معالجة تقنية يتجاوز فيها حدود المألوف البصري، ويخوض غمار الحكايات التعبيرية المنسوجة من واحة قراءاته ومطالعاته الشخصية في متن الكتب والشعر خصوصاً، ويسبح في أمجاد الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي مُحاكياً ومُتقمصاً شخصه بزي رسام ومصور يُحسن مسرحة نصوصه التشكيلية تارة ومُفاخرة وسلوكاً إنسانياً تارة أُخرى. مندمجاً في حالة الحلم والواقع، المُفكر والرسام يُعيد فصول جولاته التعبيرية وعالمه التشكيلي المتكامل الأوصاف الشكلية والشخوص والأدوات والتقنيات.

لوحاته التصويرية والحفرية مفتوحة على مسرحة الحياة بكل ما فيها من مكونات أسرار، تصوغ ذاته الشخصية ويصوغها في قوالب صوريّة وفهم معاصر لمقامات السرد البصري والتوصيل المعرفي والجمالي، المكشوفة على حكاية هنا، ورواية أديب أو شاعر ومفكر هناك. تقيس نبض مشاعره وتُدخل المتلقي إلى مضامين روايته التشكيلية وما فيها من معانٍ ودلالات مباشرة وتورية رمزية، وما تحفل من حالات فرح وهيام أو مسالك ألم ومناجاة. يقصها بالرسم والخط واللون والخامات البيئية والصناعية، يصوغها ولائم بصرية ورؤى تشكيلية وفق رؤاه الذاتية ومقدرته الفائقة على التصوير والتبرير. يجمع في متنها جميع مكونات ابتكار التصويرية الحافلة بالجماليات الشكلية والمعارف المفتوحة على إنسانية الإنسان بكل حيويته وعنفوانه وفطرته.   

عوالمه السردية مكشوفة على الحداثة التعبيرية، تلم أشتات قصائده البصرية وتجمعها في بوتقة عرض واحدة، مُحافظة على مسالك وحدتها العضوية، فيها تناغم من بين الخطوط والملونات والمساحات والكتل المضافة من مواد وخامات متعددة الصنائع والميادين التقنية يؤلف عناصرها في جوقة مسرحه التوافقي،  في لحمة بصرية متجانسة شكلاً ومضموناً ورؤية تجريبية. وله في هذا المقام  أكثر من تجربة ومعرض.

  مواضيعه ومناظره تقتحم ذاكرة المتلقي المعرفية خِلسة أو عنوة، وتدفعه للاندماج والتفاعل الحسي معها، وتُنادم مساحة بصره وبصيرته التفكيرية في محاولة فهم وتقبل مقولاته الفنية والاندماج العاطفي والفكري مع تفاصيل مكوناته المستحضرة  من واحة موهبة خبيرة ومُخيلة متوالدة  تجول وتصول في رحاب المعطى الفني التشكيلي، وتسعى لتقديم أشياء ومرئيات مثيرة للفضول والدهشة، وفيها ملامح متجددة من توليفات رؤى خارجة عن القواعد الوصف والتأليف البصري التقليدية.

 في جملة معارضه المشاريع التي كانت جدران صالات المعارض الخاصة الأعجمية والمحلية بمدينة دمشق موئلاً مناسباً لعروضه الخارجة على المألوف البصري  شكلاً ومضموناً. بدءاً من معرضه ميرو بثلاثة أبعاد عام 1994 في صالة المركز الثقافي الفرنسي، ومعرضه  تحية إلى سعد الله ونوس بصالة أتاسي للفنون ،1998 ومعرضه دليل المواطنة عام 2005 في صالة معهد غوته بالمركز الثقافي الألماني. تراه دائماً عازفاً ماهراً على أوتار التناغم الإنساني في فرحه وأحزانه، بأحلامه الكبيرة والصغيرة، المنحازة لتألف المشاعر والأحاسيس، والانتماء إلى ذاكرة مجتمع ومكان ووطن وأحلام. يحتضن جموع شخوصه ومكوناته في قصة وطن مكشوف على الفطرة.

 مفتوح على الألفة والمودة وتنوع الحريات، وفيها عودة إلى مناهل الأسطورة والبحث الفلسفي ذات النزعات الميتافيزيقية التي تحكي حالات من الأنساق الإنسانية المتناقضة والمتوافقة والمجبولة على ثقافة الحب والكراهية، تكشف عن ذاتها كحالة وجودية مربوطة بحبل سري مع أرض ووطن ومواطنة. يصوغها الفنان معلا بحرفية الصانع المقتدر والقادر على رصف مكوناته وشخوصه داخل أسوار لوحاته، فهي مشغولة بتقنيات عصر المعلوماتية القريبة من واحة الملصق الدعائي المحققة لأغراض وظيفية محددة ومقصودة بذاتها. يزاوج في تقنياته وأساليب سرده البصري ولحمة وصفه التشكيلي أكثر من مؤثر بصري يدوي وتقني بآن معاً، ليجعل من مشاريعه التصويرية حكاية محفورة في ذاكرة العابرين في واحتها من جمهور الفن والتلقي. وتضعه في مصاف رواد المعاصرة التشكيلية السورية.

العدد 1140 - 22/01/2025