أمٌّ تسأل: كيف سأحمي أطفالي إن حدث العدوان؟

قالت لي والدة لثلاثة أطفال: أكثر ما يرعبني إذا حدث العدوان فجأة، كيف سأنقذ أطفالي؟ وكيف سأتمكن من حمايتهم؟ منذ بداية الأحداث الدامية وأنا أفكر بمستقبل هذا الجيل الذي سيفتح عينيه على عالم من الخراب، بعد أن خسر عدد من الأطفال أرواحهم، والآخرون خسروا طفولتهم، وآخرون بيوتهم وقراهم ومدارسهم. كيف شُرِدت أسر لا عدد لها، وكيف شُرِد أطفال عن ذويهم وتحولوا إلى مجرد أرقام في عالم المخيمات البائس خارج الوطن، وفي المآوي والمدارس التي كانت منهلاً للعلم، بينما هي اليوم مكان بائس للسكن المؤقت الذي لا يدري أحد كم سيدوم. أخبرتني هذه السيدة بمشاعرها الخاصة عندما هاجم المسلحون منطقتها، وكيف اختبأت هي وأولادها في إحدى زوايا بيتها بعد أن شاهدت هذه المجموعات تتحرك بسياراتها وأعلامها وهتافاتها في شوارع منطقتها وهم يطلقون الرصاص الحي على الناس. وكيف شاهدت شباناً مراهقين يحملون السلاح ويجوبون المنطقة زارعين الرعب في نفوس الأهالي. وكيف غادرت منطقتها إلى مناطق أخرى، وكيف تنقلت بأولادها الصغار بين منازل الأقارب وغيرهم، حتى غادر المسلحون منطقتها وعادت إلى بيتها.

 السيدة الأربعينية تعمل مدرِّسة في إحدى مدارس منطقتها في ريف دمشق، وهي سيدة فلسطينية متزوجة من سوري. أخبرتني منذ بداية الأحداث الدامية، ما الذي يحدث هنا؟ أكاد لا أصدق أن ما يحدث حقيقي هنا في سورية التي ولدتُ وعشت فيها. ينقسم الأهالي في المنزل الواحد بين مؤيد ومعارض، ويصل الخلاف إلى حد الصدام والضرب أحياناً. واليوم بعد مرور عامين ونصف تعبت الأطراف كلها وأنهكت، وربما خفتت حدة الخلاف بسبب المآسي الكبيرة والخوف على البلاد من العدوان الخارجي ومن الغرباء الذين يغزون البلاد من الداخل ويروعون الأهالي بأفعالهم وبردود الفعل على هجماتهم.

 اتصلت بي هذه السيدة منذ بدأ يتصاعد الوضع، والاستعداد الأمريكي للعدوان على سورية وسألتني إذا ضربوا كيماوي فكيف سنحمي الأطفال؟ لم أتمكن من الإجابة، لأنه ليس لدي معلومات دقيقة عن كيفية الحماية. ولكن المعلوم فعلياً أن بلادنا غير مجهزة بملاجئ نظامية ضد الحرب رغم أننا بلد مواجهة مع العدو الإسرائيلي منذ ستين عاماً، وفي حال حدثت الحرب ورمتنا الولايات المتحدة بأسلحتها الفتاكة ليس هناك مفر للمدنيين من الموت، لأن من بقي منا سيكون قرابين للمرحلة العالمية القادمة. فمن لم يقضِ بالأحداث الدامية فسيقضي بالحرب أو برصاص المسلحين الذين سيستغلون الضربات ليسيطروا على الوضع. وتحت وقع النار من سيفكر بمن، وبالمستقبل، وببلد سيخرج من تحت عباءة الدمار الشامل مهلهلاً رثاً؟ سيكون عرضة لكل الاختراقات المؤذية لحد التفتيت، بين أمراء الحرب الصغار وبين قادة العالم (المتمدن). فالأمر الهام كيف سيتم تقسيم بلادنا وتلقينها درساً أخيراً بطريقة حضارية؟ لأنه يبدو أنه بعد تاريخ البشرية الطويل أهم منجزات الحضارة العظيمة لنا هي الأسلحة الفتاكة لنلقن بعضنا الدروس، ولنعاقب بعضنا بالقتل، قتل الإنسان، قتل البيئة، قتل التاريخ الإنساني، قتل العقل. فنحن نعيش في عصر ثقافته الحقيقة هي قتل العقل الإنساني الواعي وتبرير الغرائز البدائية الهمجية. إذ يثبت الإنسان للأسف أنه أكثر الحيوانات لا عقلانية على وجه البسيطة، وأكثرها فتكاً.

 لا يمكنني أن أنسى صوت هذه السيدة والرعب يخنقها وهي محاصرة في بيتها، تخبئ أولادها في مطبخ المنزل، وتراقب النوافذ وصوت إطلاق النار من حولها أسمعه على الخليوي، وهي تسألني: أين يمكنني أن أذهب؟ هل آخذ أولادي إلى المخيمات؟ سألتني: أي مكان يمكن أن يكون آمن؟ كلمة آمن في بلادي اليوم غير موجودة. رجوتها أن لا تغادر إلى المخيمات خارج البلاد، وطلبت منها الالتجاء إلى أحد مراكز الإيواء ريثما يهدأ الوضع. ثم انقطع الاتصال بها لفترة علمت بعدها أنها غادرت منطقتها إلى منطقة مجاورة عند أقاربها، وعادت بعد خروج المسلحين من منطقتها إلى منزلها. لكنها اليوم مثلنا جميعاً تفكر بالهجوم الخارجي على البلاد، إذا حدث العدوان فماذا سنفعل؟ كيف سنحمي أطفالنا؟ وكيف سنتعامل معه؟ لا أعتقد أن هناك أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال!

العدد 1140 - 22/01/2025