أزمات صغرى صيرت أزمة اليوم (3)..
التعليم في سورية (1)
مما لا شك فيه أن للعلم وطريقة الحصول عليه دوراً واضحاً وأكيداً في بناء الهوية الثقافية وتطوير الإنسان، ولا شك في أن وجود إشكال ما في عملية التعليم له أثره في حدوث إشكالات تنعكس على الإنسان من تراجع أو عدم ثبات في تكوين شخصه، وبالتالي تكوين كيان المجتمع وعمق فكره، وهذا يشكل خطراً كبيراً، إذ إن عدم الثبات هذا لا يعني التطور والتغيير الطبيعي بما يتناسب مع التكنولوجيا والعولمة والتقدم العلمي، بل إنه يعني ترهلاً في كيان المجتمعات، واختلاط ملامحها وتزعزعها في حال وجود أي تهديد لثقافتها. فالعلم كفيل بأن يضمن هوية ما لمستقيه، وطريقة الوصول إلى هذا العلم أي (التعليم) مسؤولة تماماً عن شق الطريق له.
ماذا عن التعليم في سورية؟
التعليم المؤسساتي في مرحلة التعليم المبكرة وفي مرحلة التعليم العالي وما بعدها، والتعليم غير المؤسساتي (تعلم فردي من الإعلام والإنترنت والبيئة)، هل قدمت هذه السبل العلم بطريقة صحيحة، من ناحية المعلومة وتحليلها والعمل عليها مستقبلاً؟ وهل ساهمت في بناء أجيال مسلحة بالعلم تسليحاً سليماً وصحيحاً لبناء فكر وثقافة يخدمان الإنسان؟
بالنسبة للتعليم المؤسساتي، مرحلة التعليم الأساسي، فكلنا نشهد ويشهد الآباء أن أطفالهم يلقون كماً لا بأس به من الاهتمام والتعليم. ولكن هل المعلومة وحدها تستفز الطالب ليبحث؟ عندما سألنا مدرسة التعليم الأساسي سعاد حويجة عن ذلك كانت أجوبتها كالتالي: إن تركيز التعليم في مدارس الحلقات الأولى هو على إعطاء المعلومات الموجودة في المقررات كافة للطالب، والالتزام بها والابتعاد عن تشتيت ذهن الطالب بمعلومات إضافية، وكلما كانت قدرة الطالب على الحفظ أكبر كانت علاماته أعلى، ولا وجود لطرق تجعل الطالب يبحث ولا وقت لذلك لا أثناء الحصة الدرسية ولا عند الطالب بعد انتهاء الحصص، فنحن نعطيه المعلومة وعليه هو أن يحفظها. وفي الثلاث سنين الأخيرة حُدِّثت المناهج على أساس أن يزيد بحث الطالب، لكن هذه المناهج قدمت بترجمة غريبة، وأحدثت الكثير من حالات الارتباك عند المدرسين وخاصة القدامى منهم.
وبالنسبة للتعليم الأساسي والثانوي فلا يختلف الوضع كثيراً، ولسنا نجهل كسوريين ذلك، ولسنا نجهل أيضاً أن النجاح في الصف الثالث الثانوي (البكالوريا) يحتاج بشكل أساسي إلى الحفظ كي يحصِّل الطالب أفضل العلامات ويسجل في أفضل الجامعات والكليات.
وهناك العديد من النقاط الواجب ذكرها خلال المرحلة الجامعية: فبعد سؤال د.حسام السعد المدرس في كلية الآداب قسم علم الاجتماع بدمشق اتضح أنه بالنسبة لعمر المناهج التي تدرس حالياً، وكم الدراسات الصادرة بعد هذه المناهج في علم الاجتماع، والمهمشة من قبل القائمين على الفرع، فهناك منحيان: (الأول) بالنسبة للمادة الفكرية في الفترة بين (1973 وحتى 2000) كانت تدرس مناهج كلاسيكية وغير حديثة. يعني أن هناك توقفاً عند النظريات المنتجة حتى عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد بقي تدريس النظريات والأفكار الجديدة مرهوناً باجتهاد أستاذ المادة. ولا يوجد في المناهج الآن النظريات التي أنتجت مثلاً في الستينيات والسبعينيات وما بعدها. وما يؤكد ذلك هو عدم معرفة الأساتذة والطلاب معاً بأسماء هامة جداً على صعيد الفكر الاجتماعي والنظريات المعاصرة مثل: بيير بورديو، ميشيل فوكو، جاك دريدا، إدوارد سعيد وغيرهم الكثير.
(الثاني) مرتبط بالجانب التطبيقي في الدراسات الميدانية في علم الاجتماع. وهو متقدم قليلاً على الجانب الفكري النظري، ولكنه غير ثابت وضبابي وغير متفق عليه في ظل ضحالة علمية واضحة. والمدرسون الذين يحاولون إدخال مناهج جديدة غير المقرر، عادة ما يحارَبون من أكثر من جهة، إما عن طريق القوانين والأنظمة التي لا تتيح للمدرس إلا تقديم 20% من خارج المقرر. أو يحاربون بطرق غير علمية إن كانت هناك محاولات جادة، وذلك لأن من شأن خطوات جديدة هو كشف الضعف العلمي والثقافي المريع للمدرسين.
والأسباب المنهجية وغير المنهجية التي آلت إلى عدم تطوير المناهج، من جميع النواحي العلمية وغيرها، هي سياسة التعليم الفاشلة وغير المنظمة التي لا تتعلق بتخصص دون غيره. وهذا ينطبق مثلاً على قسم اللغة العربية المغرق في كلاسيكيته ورفضه للتجديد. إضافة إلى عدم وجود الحافز لدى المدرس، وغياب التقييم المعياري السنوي الضروري لأداء المدرسين. فعمل المدرس يشبه عمل أي موظف إداري يحفظ محاضراته المتكررة كل سنة، دون أن تطالبه أية جهة بالتحسين أو بترقية معلوماته.
عملية التعليم القائمة على الحفظ وقلة البحث، وخاصة في جامعاتنا التي تحتوي عدداً كبيراً من الطلاب، لها أثرها على تلقي العلم بشكل صحيح، من وجهة نظر بعض المدرسين المعارضين لكلاسيكية عملية التعليم. فالمشكلة الأكبر تكمن في طريقة الاختبار هذه، إذ إنها تنتج الطلاب الذين يحفظون عن ظهر قلب ويصبحون معيدين في الجامعة، ثم مدرسين، ويكررون إعادة إنتاج النظام التعليمي القائم. فيجب إعادة النظر بموضوع تقييم الطلاب بطريقة أكثر مواءمة لمقدرات الطلاب في الفهم والاستنتاج والإبداع وليس في الحفظ، وبرأي هؤلاء المدرسين، فما دام لا يوجد عدالة في التعليم، وتساوٍ في الفرص، فهناك ثقافة متشرذمة وغياب لمفهوم الانتماء الثقافي السوري.
كل هذا في ظل كبح لمبادرات جمعية ثقافية شبابية لا تماشي سياسة الجامعة في التعبئة. هذا يترافق بالدرجة الأهم مع غياب موضوع البنية الثقافية في فلسفة التعليم العالي في الجامعات. وبرأي هؤلاء المدرسين فإنه يجب أن يوجد معيار لإعادة تقييم المدرسين واستبعاد المدرسين ذوي المستوى العلمي والثقافي المتدني، ونسيان ثقافة المجاملة، وتبني نظام تدريسي وامتحاني مختلف تماماً منذ المرحلة ما قبل الجامعية.
(يتبع)