ثقافة العنف في مجتمعنا
يعيش السّوريون اليوم في الشّارع حالة من الذّعر كبيرة جداً، وبدأنا نسمع كلمات العنف تتردد في كل البيئات الاجتماعيّة، وأصبحنا نلاحظ آثار العنف في أركان المجتمع كافة: داخل الأسرة، وضمن المدرسة، وضد المرأة. و بدأ يتسرب ليتمثل بطابع ديني، وامتد ليشمل ممارسة التّرهيب والتّخويف ضد المفكرين وأصحاب العقول، الخ…
فمتى بدأت هذه الظّاهرة بالتّبلور في مجتمعنا؟ وهل هي وليدة الأزمة فقط؟!
يقول بعض الباحثين الاجتماعيين بأنّه كلّما كان الإنسان بدائياً زاد لديه الميل نحو العنف. ولكن علماء الباليونتولوجيا يؤكدون أنّ إنسان الكهف الّذي عاش في مرحلة الصّيد لم يكن يقتل ليستمتع بالقتل أو بالقسوة والعنف، ولم يكن يمثّل بالضّحية الحيوانية إلاّ بغرض الكساء والغذاء، وقد كان يتشارك ويتقاسم مع جماعته الفريسة؛ إذاً كان المجتمع البشري في تلك الحقبة من التّاريخ مسالماً، فلم تكن الكهوف محميّة من احتمال اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، ولم تظهر آثار التحصين في البناء إلاّ في المجتمع الزّراعي المتقدّم، أي بعد انكفاء المجتمع الأمومي وسيطرة الذّكورية على الحضارة الإنسانية؛ فما الذي حدث في تلك الفترة حتّى بدأت المجتمعات تصطبغ بصبغة العنف؟!
لقد بدأت شخصية الإنسان الثّقافية بالتّبلور، وبالتالي بدأ يُدرك أهمية الحرية وتحقيق الذّات، الأمر الّذي أدى للجوئه إلى ممارسات تتمثل بالإحباط والقمع، ولّدت لديه الشّعور بالغربة والميل إلى ممارسة العنف ضد الآخرين، فنجد أنّ العوامل الغريزية مثل إشباع الحاجات الضّرورية للجسم تشغل حيزاً بسيطاً من وعي الإنسان المعاصر ودوافعه العنيفة، ونلاحظ أنّ هذه الدّوافع تتأثر بالتّطور الثّقافي للأفراد وتوجهها توجهاً صحيحاً وسليماً. العنف إذاً ليس من الطّبيعة البشرية، وإنما هو صفة نمت وتطورت مع الحضارة، فهو فعل ثقافي مكتسب، وبدأ يتبلور في مجتمعنا مع ظهور ثقافة العولمة، والّتي تتجلّى ب(اختراق الآخر) وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من العالم. وهنا بدأت ثقافة العنف بالدّخول داخل المجتمع. ولمواجهتها علينا بتنمية الإنسان وتمليكه أدوات التّفكير الصّحيحة المرتكزة على قواعد أخلاقية ثابتة بعيداً عن التّعصب الدّيني والعقائديّ.
إذاً.. ظاهرة العنف في المجتمع السّوريّ لم تكن نتيجة الأزمة، بل كان لها جذور سابقة في المجتمع، وكان دور الأزمة أنّها فتحت المجال أمام الإنسان لممارسته بوضوح وبشكلٍّ علني، فجاء رداً على العنف الاجتماعيّ والاقتصادي الّذي بدأ بالتّسرب إلى مجتمعنا، فكانت النّتيجة رداً متصاعداً من العنف، من الفرد إلى الأسرة إلى المدرسة ليصبح عنفاً اجتماعيّاً باسم القيم والعقائد والأخلاق.
وقد أكّد علماء النّفس والباحثون الاجتماعيون أنّ الشّخص الّذي يمارس العنف على الآخرين، يقوم ببناء علاقته معهم على أساس المنفعة الشّخصية والكذب المغلّف بالقيم والشّعارات المزيفة، فيردون عليه بكذب أكبر مشبع بالأصولية والنّفاق: كذب في الحياة، كذب في العمل، كذب في الزّواج، كذب في الصّداقة، كذب في ادعاء القيم، كذب في المواقف، كذب في المعرفة، كذب في الإيمان والتّجارة والسّياسة، إلخ… علاقات زائفة ضلالية لا أساس للحوار فيها، بل عنف وعنف مضاد، كذب وكذب مضاد، ليتحوّل المجتمع بأكمله إلى زيف يلعب الجميع فيه لعبة العنف، وويلٌ عندئذ لأصحاب النّوايا الطّيبة والقلوب النّقية، إذ سيكونون ضحية للنفوس المريضة الّتي من مصلحتها خراب المجتمع للحفاظ على بقائها، فنرى (أصحاب هذه النّفوس) يمارسون العنف النّفسي على الأفراد لترهيبهم ومنعهم من العمل والإبداع إلاّ بما يتوافق مع شروطهم ومنهجيتهم الّتي تهدف إلى تدمير المجتمع بأسره وإلى تجهيل النّاس، ومن ثمّ استغلالهم تحت شعار حبّ الوطن والبناء التّربوي وهم بعيدون كلّ البعد عن التّربية والبناء الإيجابي في المجتمع؛ وهنا تبدأ رواسب العقد الاجتماعيّة الّتي تبلورت في شخصياتهم بالظّهور الّتي تبدو في الظّاهر نرجسية، ولكنّها قس الدّاخل تدلّ على ضعف وتفكك بالشّخصية البشرية، وتفجر هذه الرّواسب ضد شخص آخر، ويعمل على اختراع مبررات لا أساس لها من الصّحّة ليثبت أنّه على حق في ممارسة العنف والتّرهيب النّفسي بحق الآخرين في المجتمع.
ويتجلّى بوضوح آثار ممارسة العنف سواء كان جسدياً يتمثل بالضّرب والأذيّة الجسدية أو بالتّرهيب النّفسي كالتّخويف والتّحطيم والإهانة الكلامية، وتبدأ هذه السلسلة من الممارسات العنيفة أولاً بحق المرأة الّتي غاب دورها الإيجابي في مجتمعنا السّوري وأصبحت ضحية للجهل، فنلاحظ بعض النّساء قد وقعن ضحايا لبعض رجال الدّين أو لبعض المخربين الّذين يدّعون الوطنية، إذ اعتقدن بأنّهن ستمثّلن شخصية (أم جوزيف) في تمثيلية باب الحارة، فكانوا أداة للعبة لا يعرفون أنّ الهدف الأساسي منها هو القضاء على الفكر الصّحيح البنّاء والحدّ من التّطور الإيجابي في المجتمع، وكنّ أساس الممارسات العنيفة الّتي تحدث؛ فعمدن إلى إضعاف دور المرأة /الأمّ والمربية/، بالحدّ من دورها وتضيق أفق تفكيرها، ونشر أفكار مغلوطة تدعوها إلى ممارسة العنف داخل بيتها مع أولادها أو بحق الأقارب، وقد تطول أبناء الحيّ والمنطقة لتشمل المجتمع بأكمله، فالشّخص الّذي تربى على العنف والقهر، وليس لديه القدرة على التّعبير، عن ذاته، يُمارس العنف مع أولاده لا شعورياً.
ميس، نموذج عن المرأة السّوريّة الّتي تراجع دورها في المجتمع ويُمارس عليها القهر، ترعرعت ميس في بيت والدها المسيطر على العائلة بأكملها، وعوّدها منذ نعومة أظفارها هي وإخوتها على أن يرددوا كلماته ويتبنوا مواقفه السّلبية، وعمد إلى ترهيب إخوته وأخواته، ليبقى مسيطراً ويحقق أطماعه المادّية. كبرت ميس وتزوجت وبدأت بممارسة الأسلوب نفسه مع أولادها، فهي تعمد إلى ضربهم بقسوة بذريعة تأديبهم، ولجأت إلى قمعهم ومنعهم من التّعبير عن رأيهم، وعوّدتهم إمضاء الوقت باللغو على الآخرين؛ كما لجأت إلى محاربة النّساء النّاجحات في محيطها سواء كنّ من الأقارب أو من المنطقة، لأنّها لم تتمكن من تحقيق ذاتها، فلجأت إلى أسلوب التّعنيف النّفسي الّذي يتمثل بنشر الشّائعات والأكاذيب لمنعهنّ من العمل والبناء، فكانت النّتيجة أنّ زوجها قد ملّ من لا مسؤوليتها في تعاطيها مع الآخرين، فعمد إلى هجرها، ووجد أنّ الخيانة هي الطّريق الأمثل للهروب منها ومن ممارساتها الخاطئة.
ومن حادثة ميس نجد أنّ الطّفل المعرض للعنف لا يستطيع تمثّل عنف والده أو والدته، ولكنّه يختزنه بداخله ويبقى مشتعلاً يغلي بنفسه، لينقله إلى أبنائه وإلى المحيطين به في المنطقة الّتي يعيش فيها. فالأمّهات اللّواتي يمارسن العنف بكلّ أشكاله على أبنائهنّ يتميّزن بشخصية ضعيفة غير ناضجة، وقد أثبتت الدّراسات أنّهنّ جميعهنّ قد تعرضن للأذيّة في طفولتهنّ، فميس كانت تُضرب من قبل والدتها بالمكنسة لتنفيذ أوامرها، وهي تقوم اليوم بضرب أولادها ونهر الآخرين.
أمّا ريم فهي مثال للمرأة الّتي يُمارس عليها العنف بكل أشكاله وألوانه، فهي متزوجة من رجل مقهور، يقوم بإسقاط قهره وعنفه عليها، فترد هي ذلك القهر والعنف على أولادها وعلى المقربين. تمثل ريم النّموذج الحقيقي للعبة العنف الذّكورية الّتي يقابلها لعبة العجز الأنثوي، فتلجأ إلى الكذب والنّميمة والمكر، وتتسلّى بالتفرقة بين النّاس ووضع المكائد والخطط.
إذاً، لبناء مجتمعنا بناءً سليماً علينا ببناء المرأة أوّلاً، وهذا ما أكّد عليه مؤتمر نيروبي في عام 1985م الّذي أوضح أنّ العنف ضد المرأة هو من أهم المعوقات ضد السّلام والتّنمية والمساواة. كما ميّز بين أنواع العنف، فهناك عنف جسدي يترك أثاراً واضحة على الجسد وهناك العنف النّفسي المؤذي للنفسية، والآلام النّاتجة عنه تكون أكبر وأعمق لأنّها تستمر، ولأنّه يهدف إلى تحطيم شخصية الإنسان وزعزعة ثقته بنفسه والتّأثير على حياته في المستقبل، ومن مظاهر هذا العنف: (الشّتم، الإهمال، عدم تقدير الذات، التّحقير، النّعت بألفاظ بذيئة، الإحراج، المعاملة كخادم، توجيه اللّوم، الاتهام بالسّوء، إساءة الظّن، التّخويف، الشّعور بالذّنب، إلخ…).
جميع الممارسات السّابقة لجأت إليها جيهان البالغة من العمر سبعين عاماً تقريباً، أمضت عمرها وهي تمارس شتى أنواع القهر والتّعنيف على أولاد أقربائها، فكانوا أشبه بالسّلّة الّتي تقوم بإفراغ غضبها ورواسب عقد النّقص الّتي عاشتها في حياتها. يبقى السّؤال: ما كمية الإساءات الّتي أحدثتها في حياتها؟ وكم عدد الشباب الذين عملت على تحطيمهم للحدّ من طموحهم، فقط لأنّها لم تتمكن من تحقيق ذاتها، لجأت إلى محاربة الآخرين متذرعة بأشنع الأسباب ومتسلّحة بأسوأ الأساليب.
هل اقتصر العنف في المجتمع على بعض الممارسات الخاطئة داخل الأسرة أم امتدت جذوره ليشمل التّعليم؟!
لقد لعبت المدارس للأسف دوراً سلبياً في تكريس ثقافة العنف، وذلك بالممارسات الخاطئة بحق المعلّمين وبحق المتعلّمين، فالمعلّم العاجز عن الوصول إلى عقلية المتعلّم إلاّ عبر العنف، يعمد إلى إغلاق الفكر، فلا تحليل ولا موقف ولا رأي ولا اختيار، بل تعليم تلقيني، يصنع عقولاً متلقيّة، تستند على الخرافات، مستعدّة لتلقي العقائد الجاهزة دون التّفكير بها، وهذا النّوع من التّعليم سطحي، تلقيني، امتثالي، بعيد عن النّقد والجدل، وسلطة المعلّم أو مدير المدرسة لا تناقش، وعلى المتعلّم أن يطيع وينفّذ، هذا النّمط من التّعليم يعزز الانفعال، ويكرّس التّبعية الفكرية والثّقافية، ويحرم المتعلم من استقلال الرّأي والتّفرد بالحياة، كما أنّ هذا النّمط هو السّبب المباشر لممارسة الشباب للعنف داخل المدارس.
ما هو الحلّ؟!!
الديمقراطية القائمة على الحوار المنفتح وتقبّل الآخر هي الوحيدة القادرة على بناء المواطنة السّليمة القائمة على دعم حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعيّة والسّياسية والمدنية والثّقافية، فالإنسان المكتفي اقتصادياً والذي يتمتع بالحق في التعبير عن ذاته تعبيراً صحيحاً، سيكون قادراً على بناء أسرة سليمة تعتمد الحوار أسلوباً للتربية والبناء.
المصادر والمراجع:
– ثقافة العنف في المجتمع العربي، لسمير تقي.
– العنف الأسري وآثاره على المجتمع، لعبد الله بن أحمد العلاّف.
– العنف الأسري، للدكتورة نهى عدنان القاطرجي.
– الأسرة ودورها في التّنشئة – الملتقى التّربوي.