العلمانية فكر وحضارة
كل ما يخرج عن إطار أفكار وآراء الفرد والمجتمع هو باطل، إذ لا يمكن لأي فكرة مفروضة على طبقة أو مجموعة أشخاص أن تعود بالنفع النفسي عليهم قبل المادي. كذلك الفلسفة اليونانية لم يحصل أنّها قدمت شيئاً بعيداً عن المنطق، كانت تتبع المجتمع ككل وتقترح ما هو عقلاني عليه ولا تُجبر أحداً على الأخذ به، فهي تقدم علماً، ومن أبرز ما قدمته ما يُطلق عليه العلمانية وكان أول من تناولها هم فلاسفة يونانيين أمثال أبيقور.
والعلمانية مشتقة من (عَلَم) وتعني فصل الحكومة والسلطة السياسية عن السلطة الدينية أو الشخصيات الدينية، وعدم إجبار الحكومة أي فرد على اعتناق أي دين أو معتقد، وأن لا تتبنى الدولة ديناً معيّناً كدين رسمي لها.
ومن الظلم أن نقول: أن العلمانية هي ضد الدين أو محاربة له، بل هي تنطلق من مبدأ نشر العلم ونشر الثقافات المختلفة التي تعود على المجتمع بالرقي، ومحاربة كل أنواع الفساد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي وحتى الديني، إذ لا يمكن لأمة أن يرتفع شأنها وهي تغرق بين شعبها على أساس الدين والطائفة متناسية العلم الذي يُعتبر عصب الحضارة وعجلة التطور السريعة، وهي على مرّ العصور تُقدم الحلول للمجتمعات، والسلطة العلمانية هي التي تنطوي على سلطة قانونية وعسكرية ومجتمعية، فتقوم بإحلال العلم ومحاربة الجهل والأمية ونشر العلوم كافة على مستوى كبير ولعدد أكبر من الأشخاص، كي تضمن نقل هؤلاء الأشخاص للعلوم وتطويرها وتداولها عِبر أجيالٍ متلاحقة، فالصورة العامة لأية دولة علمانية هي أنّها تعطي الحق للجميع بممارسة طقوسهم الدينية ولكن لا تسمح بتطبيق مبدأ الدين ودمجه في السياسة، فعندما تبدأ مكافحة الجهل في مجتمع معين فإنّ هذا المجتمع سيسير إلى أن يحارب أميّة السياسة والأخلاق والقانون، ولكنّه إذا كان دينيّاً لن يملك الجرأة على محاربة أميّة الدين والفهم الخاطئ له.
وأمّا مبدأ فصل الدين عن الدولة فهو لا يُعد انتقاصاً من قيمة الدين أو تحريمه، ولكن أي دولة فيها أشخاص يحملون آراء فكرية ودينية مختلفة، فمن غير الطبيعي أن تُمارس سياسة الدولة وفق دينٍ معين دون اعتبار لباقي الأفراد الذين يحملون أفكاراً أخرى، فهنا يصبح خلخلة في بنية المجتمع وقاعدته الشعبيّة ويسوده الفساد والكذب الأخلاقي والسياسي أو يصيب المجتمع بفقدان كبير للأفكار والتطور الذي من المفروض أن يحصل.
والشخص العلماني ليس من الضروري أن يكون لا دينيّاً، فمن الممكن أن يكون منتمياً لدين لكنّه يعتقد أنّ التشريعات الدينية غير قادرة على مواكبة متطلبات عصره بما تقتضيه من تشريعات وقوانين جديدة واستحداث قوانين تنظم الأمور لم تكن موجودة منذ الزمن القديم وأن يحل محل القوانين الدينيّة القديمة قوانين جديدة أكثر ملاءمة لحقوق الإنسان وفق المعايير الدولية الحديثة، لذلك يعتقد بضرورة فصل الدين عن الدولة، وعدم السماح بتسييس الدين وبإحكام رجال الدين قبضتهم على أمور الدولة، لأن وظيفتهم في المسجد والكنيسة وليس في مؤسسات الدولة، وخاصة أن الأمور الاقتصادية في دولة ما على سبيل المثال تحتاج إلى متخصصين في مجال الاقتصاد والميزانيات ولا تحتاج إلى وضع فرضيات وفق معايير دينيّة قد تؤدي باقتصاد الدولة إلى الضعف نتيجة الإدارات الخاطئة.
وعلى سبيل المثال النظام الاقتصادي الإسلامي يعود بالمنفعة الكبيرة لكن في الفترة التي وضع بها وليس في أيامنا هذه، لأن ميزانية الدولة اليوم تقوم على مشاريع اقتصادية وتنموية وتعاملات شراكة والربح الكبير وهذا ما يرفضه الأول لأن النظام عنده يقوم على الربح إلى حد الكفاية وليس العمل على ترك مخزون مساعد، إضافة إلى أنّ النظم الاقتصادية غير الدينية تقوم على منهج الفصل بين الدين والدولة وهو ما يعطي الفرصة للأفراد بإثبات إمكانياتهم العمليّة والعلميّة وعدم التطرق للحالة الدينيّة التي من الممكن أن تنجح ومن الممكن أن تفشل، على عكس النظم الاقتصادية الحالية التي تعمل على إشراك الجميع لإنجاح المجتمع وتطويره بغض النظر عن الدين لأن ثمرة العلمانية تقوم على مبدأ (الدين لله والوطن للجميع).