وأد الطاقات قبل أن ترى النور

 تُعتبر مرحلة الشباب من أجمل المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان طيلة حياته، نظراً لكونها المرحلة الممتلئة نشاطاً وحيويةً على كل الصعد، النفسية والفيزيولوجية والفكرية والعاطفية، هذا النشاط والتألق مردهما إلى اكتشاف الحياة بكل جوانبها لاسيما كل ما هو مجهول أو غير مألوف فيها، ولهذا يمتلك الشباب أفكاراً تختلف ربما بكثير عمّا هو سائد في المجتمع، وبالتالي يسعون لتحقيقه وتحويله واقعاً يستحق أن يعاش من وجهة نظرهم.

هذا التجديد في الأفكار والرؤى السائدة، هو أكثر ما يُميّز سن الشباب عن باقي سنوات العمر، ولاسيما في مراحلها الأولى – المراهقة – حيث يلعب كلّ من الفضول للمعرفة وحب الاطلاع، والسعي للتجريب، دوره، بحثاً عن الذات وعمّا يمكن أن يناسب شخصية الشّاب أو الفتاة، لهذا نجده/ا في حالة من التخبط تظهر لنا نحن البالغين على أنها مرحلة ضياع وتشتت في الطاقات.

ومهما حاولنا أن نصوّب الأهداف ستجد محاولاتنا الرفض أو التصدي على أقل تقدير، ذلك أنهم يرغبون في الاكتشاف بأنفسهم وكلهم قناعة أنهم على علمٍ أوسع ممن يحيطون بهم، فمنهم من يتجه لتنمية مواهبه على تنوعها سواء بالموسيقا أو الرقص أو الرسم وما شابه، وبعضهم الآخر ينحو نحو العلوم فيلتقط كل ما هو جديد في هذا المجال، بينما تأخذ الموضة في الفن أو الأزياء أو، أو… قسماً منهم، فيما يلتفت آخرون للسياسة وأحزابها، ذلك أن الأفكار والشعارات البراقة تؤثر فيهم بطريقة قوية لدرجةٍ يظنون معها أنه بمقدورهم تغيير العالم من خلالها، فيما نجد أن التيارات الدينية تستقطب آخرين، لاسيما في الفترات الأخيرة التي تزايد فيها التوجّه نحو هذه الاتجاهات، نظراً لعدة اعتبارات، منها مثلاً فشل الأحزاب السياسية في استيعاب هذه الطاقات وأفكارها، وهذا موضوع قائمٌ بحدّ ذاته، ليس من المفيد تناوله هنا، إضافةً إلى توجه الأهل الديني الذي يشدُّ الإنسان نحو التقوقع في دائرة مغلقة، ولما لهذا التأثير المجتمعي من قدرة على تطويق الشخص وردِّه إلى عالم الغيبيات ومفاهيم مثل الجنة والنار، الصواب والخطأ، ورفض كل تجديد أو تطوير في الرؤيا، بحكم أن هذه المفاهيم قائمة أساساً على القبول بالقدَر المرسوم سلفاً والذي ليس باليد حيلة تجاهه، وبالتالي فإن العقل مُغيّب عن العمل بل لا حاجة لذلك، بداعي وجود الخالق مدبّر كل الأمور.

لقد اتجه مجتمعنا منذ فترة ليست بالقليلة نحو هذه الاعتبارات والمفاهيم الدينية التي يجد فيها الخلاص من سوداوية الواقع المعاش بمختلف تشعباته، لاسيما في المرحلة الراهنة من الحرب القاتلة الدائرة منذ سنواتٍ خمس، مما أدى لازدياد عدد المنتسبين من الشباب المراهق والأكبر سناً للجمعيات الدينية والتنظيمات التي تسلب الإرادة وتكبّلهم بسلسلة من الممنوعات والمحرمات، إذ تُحرّم ما تراه من وجهة نظرها حراماً، وتحلل على هواها، فنجد أن التعاليم المتبعة تعتمد في غالبيتها على الفكر التكفيري الرافض للآخر المختلف وبشدة، فأدت إلى تحليل القتل والحرق والسلب والنهب إلى ما لا نهاية له من أبشع الجرائم بحق الإنسانية.

هذه التنظيمات، غالبية أعضائها من أبناء هذه المرحلة العمرية التي كان من المفروض التعويل عليهم في عملية بناء والمجتمع وتطوره وتمكينه، هؤلاء الشبان والشابات الذين وجدوا أنفسهم في مكانٍ ليس لهم، من قبل جميع الأطراف المتصارعة، فذاك الشّاب الذي قُتل أحد أفراد أسرته أمام عينيه لم يبقَ أمامه إلاّ الانتقام والقتل، وهذا ما يستغله مسؤولو تلك التنظيمات، فيبثون النار في القلوب المكلومة حتى باتت لا ترى إلا الحقد والبغضاء والعداء لكل ما هو مختلف، نظراً لأن الحالة الشعورية هي التي تحكم هذا السن، وهذه الحالة هي أكبر من القدرة على التحليل المنطقي والتفكير.

وبينما الدول التي تستقطب وتفتح أبوابها مشرّعةً للاجئين  تسعى للعمل على هذه الشريحة العمرية للاستفادة منها مستقبلاً في عملية التطور سواء الاقتصادي أو التقني أو العلمي الخ…..، نجد مجتمعاتنا تسعى جاهدةً لاغتيالها ووأدها من قبل أن ترى النور، مستخدمةً في بعض الأحيان التطور التقني أو التكنولوجي وسيلةً لتحقيق أهدافها، مستغلةً تلك العقول البريئة، من خلال وسائل التواصل، وتقنيات الموبايلات الذكية التي شدّت العالم نحوها، فبدلاً من استخدام هذه التقنيات وسائل للرقي والتحضّر، جعلتها وتجعلها سلاحاً فتّاكاً، وبذلك نخسر طاقاتنا بأيدينا، لا بل نقدمها على أطباقٍ من فضةٍ وذهب لتلك الدول التي من مصلحتها استمرار ما يجري، فنبقى في حالة تخلف وحاجة دائمة لها، بينما هي تستفيد على كل الصعد فتحافظ على تقدمها بل تزيد من تطورها وغناها بتلك الطاقات.

العدد 1140 - 22/01/2025