دفاعاً عن الكذب
يقولون في الكذب إنه بلون واحد، لا توجد كذبة بيضاء وأخرى سوداء أو ملونة…هكذا يقول الوعّاظ وبعض رجال الدين والراسخون في التنظير، رغم أنهم في الممارسة العملية يرتكبون غالباً أكاذيب مغرقة في السواد، فظيعة، تتناسب شناعتها مع تقدمهم في المركز والمسؤولية…
أكاذيب الصغار، الناس العاديين، الدهماء، سواد الشعب، الطبقات الشعبية، هي أجمل الأكاذيب، ليست بيضاء فقط، بل هي ضرورة حياتية أحياناً، هي أقرب إلى أكاذيب الأطفال…
***
في السرفيس بسبب ضيق المكان، تسمع مكالمات الآخرين، وتكتشف أكاذيب ملونة، ربما تكون في غالبيتها كذبات بيضاء، لينقذ صاحبها نفسه من موقف محرج، أو ليتهرب من مسؤولية لا طاقة له (لها) بها…
على طريق الربوة يرن هاتف شاب عشريني، فيقول بصوت يسمعه كل الركاب: أنا بالشركة، لدي عمل هنا وحالما أنهي عملي سألتقي بك، حياتي! الشاب يبدو ملهوفاً للقاء أكثر منها، اللهفة تقطر من كلماته، وربما لو كانت في جيبه قروش زائدة لاستأجر سيارة وراح إليها من طريق قاسيون الأسرع نسبياً، لكنه مضطر إلى مراضاتها بكذبة وجود عمل مهم، وليس السرفيس السلحفاتي المتنقل من حاجز إلى حاجز، كذبة بيضاء حتماً…
***
الرجل الأربعيني الجالس بجانبي في باص الميدان، الذي كان واقفاً وقفة عز طويلة على حاجز الفحامة بدمشق، يقول للمتحدث على الطرف الآخر إنه الآن في مشروع دمر والطريق مزدحم، وحالما أصل إلى المدينة سأتصل بك وأسلّمك الأمانة. هذه كذبة بيضاء قولاً وحداً، الرجل يعرف أنه ليقطع الحاجز إلى قلب المدينة يحتاج إلى أكثر من ساعة، والمسافة لا تتجاوز 2كم، وهو الوقت نفسه اللازم للوصول من مشروع دمر إلى قلب المدينة (قرابة 7كم)، وإذا أخبر الطرف المنتظر أنه بالفحامة سيفهم أنه أصبح قاب حاجزين أو أدنى من مركز المدينة، ويظن أنه على وشك النفاذ إليه.. والواقع ليس كذلك….فلا بد من كذبة بيضاء لاختصار الجدل.
***
الأغرب من كل هذا ما يرويه صديقي أنه كان في مكتب صديق طريف يتسلم منصباً شبه مرموق، اتصل الرجل المسؤول من الهاتف الأرضي في مكتبه بموبايل شخص لديه موعد عمل معه، وسمعه يقول له: أنا بالسيارة قادم إليك، وقد أصبحت الآن قرب جسر فيكتوريا! وما إن أنهى المكالمة حتى قال له الصديق: يا رجل، إنت عم تحكي من هاتف أرضي على موبايلو، ورقمك ظاهر عندو، وعم تقلو أنا بالسيارة… فردّ الصديق شبه المسؤول: خلاص حط بالخرج… يا لهذا الخرج ما أوسعه! منذ فجر التاريخ والناس يضعون أخطاءهم الصغيرة والكبيرة وأكاذيبهم البيضاء والسوداء فيه، وهو ما زال يردد: هل من مزيد؟
***
في الفيسبوك تجد أخباراً مثيرة تسارع بحسن نية إلى نقلها لأصدقائك، ثم تكتشف لاحقاً أنها من أخبار الفيسبوك الكاذبة وما أكثرها فتضطر إلى الاعتذار، وتعد نفسك بالتحقق مرة أخرى من نبأ جاء به فيسبوكيّ مُغرض أو أرعن، لكنك لا تلبث أن تقع في الخطأ نفسه حين تصطدم بنبأ رحيل مبدع مهم أو شخصية سياسية إشكالية.. فتسارع إلى نشر الخبر فيسبوكياً ورثاء الراحل وذكر محاسنه ونسيان بلاويه، لتفاجأ أنه حيّ (يلزق)، وأن الخبر هو مجرد رغبات لخصومه، ثم تعيد الكرّة، وتسلم جرة الفيسبوك كل مرة، على غير المثل السائر…
ومن أخبار الفيسبوك ما يودّيك في داهية، وما أدراك ما الداهية، أقصد حين تقوم، بكل حسن نية، بوضع خبر سياسي أو مقطع فيديو من يوميات الحرب، من مصدر مغضوب عليه…حينئذ ستُكمل الكذبة هناك، تحت الأرض، حيث لا فيسبوك ولا من يفسبكون.
***
هناك أكاذيب بالإكراه، عندما يقوم أحد أصحاب الخطوط الجميلة والأنيقة برفع تقرير من كعب الدست للجهات المختصة عنك، ويقبض المعلوم عن تقريره، ثم يمضي إلى ضحية أخرى، ويصبح دورك أن تعترف بالمنسوب إليك.
ومن طرائف الاعترافات في التحقيق على الطريقة السورية، أن شخصاً كانت تهمته سرقة (موتور)، وبعد الأخذ والرد والفلقات… اعترف الرجل ب (جريمته) قائلاً: إي، أنا سرقت الموتور!
هنا تنفس المحقق الصعداء، ونفخ صدره كطاووس:
إي يا حبيب، هلأ قلّي كيف سرقت الموتور؟ من طقطق للسلام عليكم.
سيدي ركبت الموتور، شغّلتو، ومشيت فيه.
هنا طاش صواب المحقق مرة أخرى، وانهال بالضرب على الرجل قائلاً:
ولك يا كرّ، هادا موتور مي، مو دراجة نارية!