الليرة فقدت أكثر من50% من قيمتها.. غير مسموح لأي كان أن يحقق الربح الفاحش خلال الأزمة
يرزح السوريون تحت ثقل الأزمة التي تعيشها سورية، فالغلاء يزداد يومياً، وأعداد الفقراء تتضاعف، ومعدلات البطالة تتفاقم. إضافة إلى تباطؤ التنمية والاستثمارات. ورافق ذلك رفعُ أسعار المحروقات من جهة وتضاعف أسعارها في السوق السوداء من جهة أخرى، ما أدى لزيادة أسعار السلع الأساسية وخاصة الغذائية منها. فقد أفقدت الأزمة السورية الليرة أكثر من50% من قيمتها مقابل الدولار، متأثرة بشدة من محاصرة الموارد المالية السورية. وتفاقمت صعوبات كثيرة ومشاكل إلى مستويات كبيرة، أدت لأن يدفع المواطن السوري العادي الثمن بتدني أمنه ومعيشته وعدم تمكنه من تأمين حاجياته.
وبحسب المكتب المركزي للإحصاء استمر ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلك، مسجلاً 28,220% عن أيلول ،2012 وزيادة مقدارها 42,16 نقطة عن آب السابق. بينما كان الرقم في كانون الثاني الماضي 172%. وأشار المكتب إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي عن أيلول 2011 بنسبة 1,48%، وعن آب 2012 بمعدل 05,8%. إذ سجل 49,39 % ثم ارتفع في أيلول الماضي إلى نحو 54,47%. أما اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) فقد بينت في تقرير صادر عنها أن تضخم أسعار الاستهلاك في سورية سجل عام 2009 نسبة قدرها 8,2%، وفي عام 2010 نحو 4,4%. أما في عام 2011 فإن البيانات الأولية تقدر نسبة التضخم بنحو 6%، وترتفع لتصل إلى 10% عام 2012.
وفي لقاءات أجرتها النور مع عدد من السوريين للوقوف على معاناتهم، أكدت السيدة ديالا، وهي ربة أسرة ولديها طفلان، أن مشترياتها تقتصر على الأشياء الضرورية فقط. وقالت: (كان دخل زوجي قبل الأزمة يكفينا لمدة شهر بسبب تقنيننا الكبير، ولكن جيوبنا اليوم تخوى منذ الثلث الأول من الشهر). ومن جهة أخرى قالت السيدة سميرة، وهي موظفة في القطاع الحكومي: (ارتفعت أسعار كل شي إلا رواتبنا بقيت على حالها بل انخفضت قيمتها. فراتبي الشهري 15000ل.س، هذا المبلغ لم يكن يكفيني أكثر من خمسة عشر يوماً عندما كان سعر الدولار بحدود 50ل.س فما بالكم والدولار يتجاوز أحياناً عتبة المئة ليرة، فاليوم يعادل دخلي ما قيمته 6000ل.س في السابق تقريباً، فماذا أفعل في هذه الحالة؟!).
وعن رفع الحكومة السورية لسعر ليتر المازوت قال الأستاذ أسامة الذي يعمل محاسباً: (إن رفع سعر المازوت يتناسب طرداً مع رفع أسعار بقية المنتجات والسلع، الأمر الذي سيزيد ضَعْف القدرة الشرائية للمواطن).
وأما الطالب الجامعي ناصيف زغيب فقال: (أثّر ارتفاع الأسعار عليَّ كثيراً -كما أثر على الكثيرين من جيل الشباب- فاستغنيت عن الكثير من الأمور، فلا أريد تحميل أهلي أكثر من طاقتهم وإمكاناتهم، فقد ترك والدي عمله في بداية الأزمة تقريباً). وعن الأسعار قال: (تشهد هذه الفترة غلاء في أسعار كل شيء، فالخبز تجاوز 75ل.س، وليتر المازوت أكثر من100ل.س، وغيرهما الكثير من السلع الأساسية). وعن آلية صرفه قال: أحتاج إلى علبة دخان يومياً بسعر 130ل.س، إضافة إلى وحدات للخليوي 100ل.س، إضافة للمواصلات نحو 300ل.س أسبوعياً، يضاف أيضاً »ساندويشين« في الجامعة مع كأس شاي أو نسكافيه نحو 125ل.س).
ولم يكن حال السيد محمود مصطفى -الذي يعمل مديراً لأحد المواقع- أفضل حالاً، إذ أكد أن الأسعار وصلت إلى حدود جنونية، متجاوزة قدرة المواطن على احتمالها. وقال: (إنّ غالبية السلع الأساسية التي يحتاج إليها أطفالي الثلاثة وزوجتي، باتت مفقودة من الأسواق، وفي حال توفّرها تضاعفت أسعارها أضعافاً). وتابع (لا أحد يشكّك في تأثير العقوبات المفروضة علينا، لكن من حقي أن أتوجّه بالسؤال إلى حكومتنا الموقرة: هل تقوم الوزارات والأجهزة المختصة بواجبها بمكافحة احتكار قلة من التجار المتلاعبين بقوت المواطن، بغية الربح الفاحش على حساب الطبقات الكادحة، إن أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة هم أكبر المتضررين).
وأكدت الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب أن التضخم في الاقتصاد السوري مشكلة هيكلية وبنيوية في آن واحد، غير أن الأزمة الحالية قد فاقمت الوضع خطورة، وحفزت معدلات التضخم للارتفاع بصورة غير منضبطة وغير مسيطر عليها (على شكل متوالية هندسية)، وقالت: (التضخم ليس نتاج عامل واحد، إنما هو مؤشر عن اعتلال الاقتصاد السوري بمجمله، وثمة مشكلة هيكلية باتت متأصلة في مكونات الاقتصاد الكلي، وهي اختلال التوازن بين قطاعات الاقتصاد الحقيقي وبين قطاعات الخدمات:
– إن سيادة قطاع خدمات دون توفُّر جهاز إنتاجي متطور ومرن في الوقت نفسه، يعني توليد دخول نقدية تمثل قدرات شرائية تزيد من ضغوط الطلب، إزاء عجز الإنتاج المحلي لمواجهته.
– وإن تدني معدلات الإنتاجية وتعطل العديد من الأجهزة الإنتاجية في القطاع الحقيقي المحلي قد أدى إلى حالة من القصور في العرض الكلي.
– وإن البنية التحتية المادية هي من أساسيات التكوين الرأسمالي الثابت، وقد غدت مندثرة إلى حد بعيد بسبب تعرضها للإهمال لفترات طويلة).
وتابعت تقول: (وإذا ما قورنت التطورات السعرية الراهنة بمستويات البطالة ومعدلاتها المرتفعة نجد أن الاقتصاد السوري يتخبط في ظاهرة الركود التضخمي وبمستويات مثيرة للقلق. لذا ينبغي النظر إلى التضخم من منظور شمولي، فمشكلة التضخم ليست هي الإشكالية الوحيدة التي يعانيها الاقتصاد السوري بل ترافقت معها حالة الكساد وانخفاض معدلات التشغيل والنمو).
وعزت الباحثة سيروب المعدلات المرتفعة للأسعار التي شهدها الاقتصاد السوري مؤخراً إلى:
– عدم ثقة المواطن السوري بالسياسات الحكومية والمؤسسات السياسية، فعمل على الشراء والتخزين خوفاً من الغد، وزيادة الطلب نتيجة توقع التضخم والخوف من بعض التغيرات التي قد تحدث، لعدم ثقته بأن الحكومة قد تساعده على تأمين احتياجاته اليومية، والتي استدعت تأثيراً مضاعفاً على التضخم.
– قلة المعروض من السلع والخدمات نتيجة توقف إنتاج الكثير من المنتجات المحلية الزراعية والصناعية، مما أدى إلى إحلال مثيلاتها المستوردة من منافذ دولية وإقليمية وفقاً للأسعار العالمية (رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة على الاقتصاد السوري)، مما عززت التوسع في اقتصاد الظل وولدت أسواقاً سوداء فاقت قدرة الاقتصاد الوطني والمواطن على التحمل.
– تعزيز ظاهرة الدولرة من خلال تحوط الأفراد بالعملة الأجنبية، وعدها وسيلة مناسبة لحماية الثروات نتيجة التقلبات الشديدة في سعر صرف الليرة السورية، ودور المضاربين والمتاجرين بالعملة الوطنية، وفقدان الثقة بالليرة السورية.
– إضافة إلى العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي وصعوبة النقل وتراجع سعر صرف الليرة السورية والتضخم المستورد.
وعن السبب الرئيس للتضخم قالت: (إن الحكومة في مواجهة تداعيات الأزمة التي تمر بها خفضت من اهتمامها بالعديد من القضايا المعيشية والاقتصادية، مقابل توجيه الجهود لمواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد، موجهة الإنفاق العام باتجاه المجهودات الحربية والإنفاق العسكري، مقابل بروز الدور الكبير لتجار الأزمات والمضاربين بقوت الشعب في السيطرة والتحكم في الشؤون الاقتصادية والمعاشية). وأضافت تقول: (تحول اقتصاد سورية إلى اقتصاد حرب، خاصة خلال الأشهر الأخيرة، وبما أن الحرب بحاجة إلى إنفاق، لذا يعد التضخم الطريقة الأسهل لتمويل الحروب، إن توقف عجلة الإنتاج وتوجه الدولة إلى الإنفاق الخدمي والإداري، واستمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية من حيث تصدير النفط الخام وبسبب الظروف الراهنة وعدم قدرة الحكومة على التحصيل الضريبي، كل ذلك أدى إلى جفاف الإيرادات، لذا فقد كانت الحكومة مضطرة تحت إلحاح الظروف الطارئة إلى القيام بمجموعة من الخطوات، أهمها:
1- السحب من الاحتياطي بمعدل أكبر مما صُرِّح به.
2- وقد تضطر أيضاً إلى إصدار العملة الوطنية دون وجود تغطية كافية، مما يعني ازدياد السيولة دون وجود سلع مقابلة لها).
وأكدت أنه بدون الخيارين أعلاه لا يمكن للحكومة أن تتحمل حجم الإنفاق الضخم على المجهود الحربي إلى جانب قيامها بالمهام الأخرى. وبما يؤدي إلى مضاعفة المعروض النقدي خلال الأزمة، فضلاً عن أن هذا النوع من الإنفاق انعكس في زيادة الطلب الإجمالي وبالتحديد الطلب الاستهلاكي وتحول العمال من العمل الإنتاجي إلى الإنتاج الحربي، مما أدى إلى انخفاض العرض الإجمالي، خاصة في ظل تعطل المعامل وتوقف الأعمال الزراعية إلى حد كبير.
ويطبق التضخم قانون الغاب في تمويل الحرب، فالأسعار والأرباح ترتفع، بينما الأجور والقوة الشرائية تنخفض. والاستغلاليون وتجار الأزمات والمتنفذون يصبحون أكثر غنىً، وتتآكل المدخرات نتيجة الضريبة غير الظاهرة للتضخم، ورغم تصريح الحكومة أنها تتحمل عجزاً كبيراً في الموازنة العامة، لكن العجز الفعلي في الواقع هو أقل بكثير من العجز الإسمي، وذلك لأن التضخم يمول إنفاق الحكومة على الأزمة.
ولدى سؤال الباحثة د.سيروب: عن قدرة الدولة على علاج مشكلة التضخم في ظل الظروف الراهنة، أجابت: (يصعب التكهن بآلية تخفيض التضخم، نتيجة تداخل الأسباب السابقة، لكن في ظل انعدام مرونة الجهاز الضريبي، وانخفاض الإنتاج الصناعي والزراعي، وضعف إنتاجية القطاع الحقيقي العيني، وغض الطرف عن تجار الأزمات (سواء تجار العملة أو تجار المواد الحياتية والسلع المختلفة)، لا يمكن للحكومة أن تعالج أو تخفض معدلات التضخم الراهنة. فلتستطيع الحكومة تخفيض التضخم يجب أن ترفع أولاً شعار (غير مسموح لأي كان أن يحقق الربح خلال هذه الفترة).وعن الحلول التي تراها مناسبة قالت:
على المدى القصير:
– مراقبة الأسواق والأسعار ومحاسبة التجار والمضاربين بسبب الزيادات الكبيرة في الأسعار، وتفعيل هيئة حماية المستهلك، وتفعيل الرقابة الشعبية الذاتية وتدعيمها.
– تدخُّل الحكومة كلاعب رئيسي في توفير السلع والخدمات العامة والخاصة، إذ رغم عودة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك إلا أنها لا تقوم بالمهام التي كانت تقوم بها سابقاً، كما يجب، وهي مراقبة الأسعار وتفعيل نشاط المؤسسات الاستهلاكية، والتوسع في تجارة الجملة والتجزئة الحكومية.
– نقل المصانع من المناطق الساخنة إلى المناطق الهادئة (طبعاً بعد دراسة كل حالة على حدة)، بما يؤدي إلى المحافظة على الطاقة الإنتاجية ومعاودة الإنتاج بشكل طبيعي.
– العودة إلى حصر استيراد أهم السلع الحياتية بمؤسسات الاستيراد الحكومية، والسماح للجمعيات التعاونية للاستيراد من أجل كسر احتكار التجار والمضاربين.
– ضبط الحدود تلافياً لتهريب السلع من دول الجوار وإليها.
– الاستفادة من دعم بعض الدول الصديقة والحصول على المساعدات والمنح غير المشروطة.
أما على المديين المتوسط والطويل فينبغي:
– إعادة صوغ نهج اقتصادي اجتماعي مناسب، وفق مبادئ جديدة تستطيع أن تجابه التغيرات الهامة التي طرأت على الاقتصاد العالمي، للخروج من مأزق الرأسمالية المتوحشة ومن الاشتراكية الشمولية والتخطيط المركزي. وذلك بإعادة توزيع متوازن وعادل للأدوار بين الدولة وبين القطاعين العام والخاص، بما يخدم تحقيق التنمية المستدامة وترسيخ الجانب الاجتماعي لعملية التنمية في الإطار الذي يحافظ على الدور القوي للدولة، دون الإخلال بحق القطاع الخاص وواجبه في المساهمة بهذه العملية.
– ترسيخ وجود أجهزة حكومية قوية وذات صلاحيات، ومؤسسات قابلة للمساءلة والمحاسبة.
– عندما تقوم الحكومة بالتمويل بالعجز فإنها تخلق الشروط المواتية للتضخم في ظل عدم مرونة الجهاز الإنتاجي وانخفاض في الإنتاجية، وهنا يبرز دور الدولة في إطار إعادة الإعمار وإعادة الاعتبار للجهاز الإنتاجي وللاقتصاد الحقيقي أكثر من الاقتصاد الخدمي.
– إعادة هندسة النظام الضريبي وتعديله بما يعزز مفهوم العدالة الاجتماعية، والتخلي عن منح الإعفاءات والتسهيلات لصالح الرأسمال التي قد تتجاوز في بعض الأحيان الدعم المقدم للمواطن.
– وضع سياسة نقدية قادرة على تحفيز الادخار وإعادة الثقة بالليرة السورية، وإصدار سندات خزينة (بالعملة المحلية والأجنبية) من أجل تمويل المشروعات الاستثمارية.
– لا يمكن أن يقتصر علاج مشكلة التضخم على المؤشرات الاقتصادية فحسب، بل يجب أن يتم عبر دراسة وتحليل الهياكل المؤسساتية والسياسية والاجتماعية، فالقوى الاجتماعية والسياسية تلعب الدور الحاسم في خلق التضخم، وكذلك في النجاح والفشل في سياسات مكافحة التضخم أو محاربته.