مساكن شعبية..

على طريق الزاهرة القديمة قبل كراج درعا كانت تنتصب خيم بائسة للنازحين من مناطق منكوبة، معظمهم من جنوب دمشق، بدأت تتزايد حتى كادت تشكل (ضاحية سكنية)، فكنت صباحاً تجد النساء يغسلن بغسيل الملابس في (طشوت) وينشرنها على قارعة الطريق على حبال موصولة بين خيمة وخيمة..

الآن أزيلت هذه الخيم بعد أن تركت ملامحها في المكان، ولا أدري أين ذهب سكانها. لو أن هؤلاء السوريين يملكون أجرة منزل في أي حي من دمشق أو غير دمشق لما سكنوا في هذا المخيم المفتقد لأي شرط إنساني.

لو أنهم يملكون تكاليف رحلة النزوح الخارجي إلى مخيمات الأردن أو تركيا، أو حتى نفقات رحلة الذل إلى لبنان، لما قبلوا السكن على قارعة الطريق.

لو لم تأتِ الحرب على بيوتهم وممتلكاتهم مثل ملايين السوريين، لما خرجوا أصلاً ليصبحوا فرجة ومثار شفقة من البعض، وسخرية واستهزاء من البعض الآخر.

لو أن أحداً أو جهة أو مؤسسة آوتهم لما لاذوا بالأرصفة والشوارع.

ألف لو ولو لا تفتح عمل الشيطان، بل تفتح فجوات هائلة في الذاكرة لن تملأها خطابات السياسيين وابتسامات الزعماء على الشاشات ووعود الغد المشرق..

آخر من بقي من سكان هذه الخيام وجدتهم أمس يوضبون بطانياتهم وعدة فرشات مهترئة في موقف الباص على كرسيين بلاستيكيين صمما ليجلس عليهما منتظرو الباصات، هذه المواقف لها سقف من معدن وعلى جوانبها الثلاثة ألواح بلور تستعملها شركات الإعلان لنشر إعلاناتها، الآن ينشر فيها السوريون بعض مآسيهم..

ينامون ليلاً في الحديقة المحاذية للطريق، هي ليست حديقة، بل جزيرة كانت خضراء بجانب الأوتستراد وأصبحت قفراء بفعل تحوّلها إلى (ضاحية سكنية) هي إحدى علامات سورية الجديدة، سورية التي نصفها نازح ونصفها الآخر يلبس السواد ويعاند الجوع والخوف والتعب.

وصباحاً يضعون (فرش البيت) على كراسي موقف الباص ويقفلون عليها الهواء لينطلقوا إلى أعمالهم، إن كان ثمة عمل لبعضهم، نشيطين سعداء فرحين..

***

بجانب جسر الثورة وسط دمشق، صباحاً أيضاً، كانت سيارة سوزوكي محاطة بشراشف تخبىء ما في صندوق السيارة، صادف مروري قربها قيام صاحبها بفك الشراشف، كان المشهد سورياً عادياً في الصندوق الخلفي، نسوة وأطفال يستفيقون من نومهم على زمامير السيارات والنشاط الذي بدأ يدب وسط المدينة وهم يفركون عيونهم، و(يسعد صباحكم كلكم يا شغالين)..

يمضون ليلهم في سبات ونبات ضمن صندوق السوزوكي محسودين من ساكني الأرصفة والحدائق، لديهم صندوق يأويهم وسوزوكي ينطلق بها الأب ليلتقط رزقه خلال النهار، يسعى في مناكبها الهرمة الخربة..

***

في الأحياء الآمنة ثمة زوار يوميون من مناطق التوتر والخراب، يبحثون عن بيت للإيجار تقطنه عدة عائلات، يبحثون في أرخص مناطق المخالفات عن سقف يأويهم مع عائلاتهم يستطيعون دفع أجرته، والأجور تضاعفت طبعاً، والشروط زادت وتشعبت، يفتح الدلال تحقيقاً مفصلاً عن اسم النازح وأصله وفصله وانتمائه وتاريخ حياته وعدد مرات نزوحه، ويعيد صاحب المنزل التحقيق نفسه، ثم تبدأ رحلة الحصول على موافقات، ثم رحلة الأسى لحمل ما يسمى فرشاً وأمتعة.. يصبح الصبر حملاً ثقيلاً على القلب.

إنها السُّوق: عرض وطلب.

إنها الحرب، لا تبالي بالضحايا، تزرع في كل ركن مما كانت بلاداً ذاكرة للوجع والجراح.

***

الوطن مصحة عقلية

حين يعم الجنون…

أيها المسافرون

احجزوا لي تذكرة إليه

سأخلد إلى موت أو جنون!

العدد 1140 - 22/01/2025