صخرة الحب !
كنتُ كلما خرجتُ من مركز العاصمة، قاصداً منزلي في إحدى الضواحي القريبة من دمشق عبر الطريق الذي يدعى طريق الربوة، أنظر إلى تلك الصخرة الشامخة وكأنها تتحدى الرياح.
وكنتُ دائماً أحاول أن أتبين ما هو مكتوب عليها. وأتساءل في نفسي عن سرّ تلك الكتابات، ومن كتبها، وما هي المناسبة، ولماذا يتسلق شخص ما هذه الصخور الخطيرة ليكتب ما هو مكتوب. ولكن دون أن أصل إلى جوابٍ دقيق، بل كان ما توصلت إليه مجرد احتمالات تبينتُ أخيراً كم كانت خاطئة. إلى أن كنتُ يوماً أجلس بجوار أحدهم.
سألته إن كان يعرف شيئاً عن الموضوع فقال:
الاسم المكتوب فوق الصخرة، هو لأحد العاشقين. وقد تعددت الروايات والقصص، فمنها ما يتحدث عن عشيقة لفظت أنفاسها الأخيرة، تحت عجلات إحدى السيارات العابرة. وكان عشيقها، يأتي يومياً، ويتذكر حبيبته، حتى أغرقه الحزن وأضناه الشوق، عندئذ، لم يستطع صبراً على ذلك، صعد إلى الصخرة وألقى بنفسه بعد أن كتب اسمه واسم عشيقته عليها!.. ومنها ما يتحدث عن فتاة لم ترعَ العهد ولم تحفظ الود، إذ تزوجت من غير حبيبها. وذات يوم كانت في المطعم الذي تطل عليه الصخرة. صعد (الحبيب) إلى قمة الصخرة وبدأ يراقبها، فبدتْ في أسعد لحظاتها مع من تحب. لم يستطع صبراً على ذلك فألقى بنفسه من على تلك الصخرة بعد أن كتب ما كتب وفارق الحياة..ولست هنا بوارد أن أسرد ما سمعت عن تلك الصخرة.
ما أود قوله هو أنني كلما تذكرت تلك الحادثة أعود بذاكرتي إلى الأساطير اليونانية الجميلة.. اليونان التي قدّمتْ للإنسانية روائع الأدب من شعر ومسرح وقصة وأسطورة.. وكم هي جميلة تلك الأساطير التي تعبر عن طفولة العقل البشري في رحلته الطويلة والمضنية، في دهشته وأسئلته الأولى عن الطبيعة والله ومحاولاته لاكتشاف ذاته كائناً مستقلاً يملك كامل الحرية إزاء الأشياء التي تعترضه.
ولئن تعدّدت الأساطير وتنوّعتْ لتشمل شتى المجالات التي قد يتناولها العقل البشري، فإن تلك التي تتحدّث عمّا يستطيع المرء القيام به في سبيل الحصول على من يحب والصعاب التي يستسهلها في سبيل ذلك تبقى تثير الدهشة.
قد تنفرط دموعك وأنت تقرأ كيف يصارع المحب الأهوال ويعاني الصعوبات والمصائب الكبرى دون أن يتخلى عن محبوبته، حتى ولو كلفه ذلك حياته.فهذا لياندر، مثلاً، فتى أبيدوس وأشجع شبانها يبهره جمال تلك الراهبة التي تدعى هيرو. لقد عشقتها أذنه قبل قلبه من خلال الأحاديث التي تروى عن جمالها. ولم يستطع إلاّ أن يأتي إلى المعبد عندما سمع عن حفل ضخم يقام في الهيكل تكريماً لفينوس وتقديساً لها. فانطلق يحدّث نفسه بأماني الحب ويتغنى بأغرودة الجمال، إلى أن عبر نهر الهلسنيت وقصد الهيكل. كانت فينوس ( ربّة الحب ) تتفحّص الملأ، وعندما رأت لياندر يرنو إلى هيرو وتكاد عيناه تلتهمانها التهاماً، وأن هيرو منصرفة عن الفتى المسكين، تكاد لا تعيره نظرة، ولا تمنحه التفاته، تحرّك حنان الحب في فؤاد ربّة الحب، وأقسمت لتعاوننّه في هذا المشروع الغرامي العظيم، ذلك أنه كان يثلج صدرها ويملؤه غبطة أن ترى عبرات المحبين وتسمع رنين القبل في شفاه العاشقين..!
والأسطورة تطول، إلى أن تنتهي باتفاق هيرو ولياندر على اللقاء في البرج. وهنا، كان على لياندر أن يقطع البحر ويصارع أمواجه تحت رعاية ربّة الحب فينوس. ولكنها ( فينوس ) ذهبت إلى حبيبها (أدونيس) فلم يستطع لياندر أن يجابه العواصف والموج، واستولى عليه القنوط والخوف والضعف، فغاص ولفظ اليمّ جثته، ثم ابتلعه، ثمّ لفظ جثته مرّة ثانية. وانتظرتْ هيرو المشوقة وصول حبيبها. ولكن.. ما إن تنفّس الصبح حتى أسرعتْ إلى البحر فرأت الجثة الحبيبة ترتطم بسور البرج وكأنه حنين الجسم إلى أحلام الروح.
صعقتْ هيرو، ودارتْ بها الأرض فألقتْ بنفسها في البحر.. وما هي إلاّ لحظة حتى كان الحبيبان مسجيين على سرير الماء، ملفوفين بأكفان الزبد..!
هل يمكننا القول إن العديد من القصص الغريبة التي سمعناها أو نسمعها الآن والتي حدثت منذ وقت سيكتبها التاريخ وستقدّم للأجيال القادمة على أنها أساطير..!؟ أم أنّ العديد منها سوف يطوى تحت رماد صفحات التاريخ الباردة !؟