الخبز الحافي..

لم يكتب الراحل محمد شكري روايته الأولى والأهم (الخبز الحافي) إلا بعد أن تجاوز الأربعين من عمره وتعلم القراءة والكتابة، وهي سيرة ذاتية له، سيرة للخبز، الخبز الذي كالماء يقترن بالحياة..

ومناسبة تذكر الرواية التي ترجمت إلى العديد من اللغات، وجعلت كاتبها الذي عاش تفاصيل حياة العالم السفلي للمجتمع المغربي، وأرَّخَ لمعاناته ومعاناة أناس القاع مع الرغيف، من أشهر كتاب عصره، مناسبة تذكر هذه الرواية الخالدة هو قرار حكومتنا الرشيدة برفع سعر ربطة الخبز من 15 ليرة إلى 25 ليرة أي بنسبة 60%.

من المعروف أن شعوبنا الشرقية مستهلكة شرهة لهذه المادة، والحكومات هنا تحسب حساباً كبيراً للخبز حسب مبدأ أن لا تقطع شعرة معاوية مع الناس على الأقل بموضوع حساس كالخبز، وما زلنا نتذكر انتفاضات الخبز في تونس ومصر خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، حين لجأت السلطات حينذاك لرفع الدعم عن الخبز، فخرج الناس الى الشوارع رغم سيف القهر المسلط على رقابها، مثل كل جمهوريات وممالك الخوف التي تغولت في دول العالم الثالث القائمة على حكم المخابرات، وإسكات كل صوت معترض أو معارض ..

لذلك قرَّرْتُ أنا العبد لله أن أتقدم بالنصح مجاناً لحكومتنا بالتراجع عن قرارها، لربما تترك ذكرى طيبة لدى الجماهير (الغفورة) قبل أن ترحل مع تشكيل حكومة جديدة خلال أيام حسب دستور البلاد، وإلا فإن الخلف سيضع الحق على السلف بأنه هو من رفع سعر الخبز، وأن التركة ثقيلة، كما يردد كل من يستلم كرسياً من غيره.

والتراجع عن قرارها سيكون سابقة إيجابية في تاريخ الحكومات منذ ستينيات القرن الماضي، حين  بدأ الشعار يطغى على الفعل، أقصد اعتراف حكومة بخطأ قرار اتخذته ثم التراجع عنه، ولتثبت للسلطتين اللتين من المفترض أن تناكفا الحكومة وتلعبا دورهما الرقابي (السلطة التشريعية والرابعة) أن عجزهما وشللهما الحالي لا يمنع السلطة التنفيذية من ان تستغفر الشعب، وتقول لمواطنيها الباقين على قيد الوطن: عذراً ايها السوريون لقد أخطأنا هنا وحمّلناكم ما لا طاقة لكم به، إضافةً الى حمل السنوات الثلاث من الحرب والخراب والتهجير والموت..

سيقول كثيرون إنه حلم ابليس بالجنة، لكني أجزم ان الحلم بداية الطريق، بل لم يبق لدينا سواه، مثلاً، أحلم أن يقف مسؤول مرةً أمام جماهيره، أصغر مسؤول، وليكن رئيس بلدية في بلدة مهمشة، او رئيس جمعية فلاحية في قرية منسية، أومختار بختمه الدائري في (ضيعة ضايعة)، ويقول على رؤوس الأشهاد بأنه أخطأ وسيحاول تصحيح النتائج التي ترتبت على خطئه، ثم يترك مكانه لمن هو أكفأ منه.. يا أخي حتى مدربي الكرة في الدول الحديثة والقديمة يستقيلون حين تمنى فرقهم بهزائم ثقيلة، بينما عندنا يقالون فقط إن لم يكن لهم (ظهر) كما يقال.

 بعض الخبثاء قارن بين خسارة الاقتصاد الوطني الناتجة عن دعم الخبز، حسب تبريرات أصحاب قرار رفع الدعم، وبين خسارته من ثمن الرصاص الذي يطلق على الطالعة والنازلة، في احتفال مفاجىء  بنجاح ابن او بنت في البكالوريا، أو بخطاب او نتيجة مباراة أو انتخابات تعبيراً عن المفاجأة بالنتيجة، أو ولادة أو عرس أو تشييع..

أما الطامة الكبرى فهو ما يعيد المختصون والمحللون طرحه منذ عقود من أرقامٍ مرعبة عما يستنزفه الفساد وعقابيله وأذياله من ميزانية الدولة، وهي جيوب رعاياها بالنهاية.. هذه المبالغ الخيالية تكفي ليس فقط لدعم الخبز، بل حتى لدعم الكاجو والكافيار (والذي منو)، لتوزع بالبونات على أبناء الطبقات الكادحة الذين لم يسمعوا بها إلا في المسلسلات والأفلام.

المشكلة التي تتكرر دائما أن المترفين حين يبحثون عن أبواب للتوفير ينسون بذخهم وإسرافهم الخيالي، ولا يجدون سوى قطع آخر رمق من الحياة عن الأغلبية الفقيرة، خبزها، وهم يتوهمون أن صبر هؤلاء بلا حدود، رغم أن السيدة أم كلثوم لطالما ردّدت في أغنية واحدة عشرات المرات: (للصبر حدود)، لكنهم لا يقرؤون ولا يسمعون أيضاً.

العدد 1140 - 22/01/2025