يحرّر الأحرار.. ويقيّد العبيد
من بين الأخطار والمحن، يولد القلب الكبير، ومن عتمة الغيوم ينبثق البرق، ومن ثنايا الأرض تخرج الأشجار العالية، وتنفجر البراهين الرهيبة.
يحدث ذلك بيد من صبر، وإرادة من حديد! فما أعظم الصبر، وما أقواه!
ما أجمله وأشرفه حين يسكن الصدور الكبيرة، وما أقبحه وأذله عندما تحاول النفوس الصغيرة أن تتسلح به!
(إن ساعة الشدة لهي الساعة التي يتجلى فيها سمو الأخلاق)، فبالصبر تعرف قوة الرجال وعظمتهم، فلولا صبرنا على البذرة ما كانت شجرة، ولولا صبرنا على الزهرة ما أكلنا الثمرة.
الصبر قوة ساحرة وعجيبة بيد من يعرف كيف يتحكم به ويتصرف على أساسه، فهو يقلب الطاولات ولا ينقلب، يبدل الأماكن ولا يتبدل، يعلي الكريم ويخفض اللئيم، يدفن الأحزان ولا يندفن، يحرر الأحرار ويقيد العبيد.
إن كل شيء ناجح وقوي في الحياة يبدو أن أساسه الصبر، فالرجال الكبار لم يولدوا كباراً فجأة، تدرجوا في سلم النمو، واجهوا وقاوموا واحتملوا، صبروا على المر، وعلى نوائب الدهر ومصائبه قبل أن ينالوا ثمرة صبرهم.
وأصحاب النفوس الضيقة لا يؤمنون به، ولا يعيرونه اهتماماً، فهم يريدون أن يكبروا قبل أوانهم، فيدخلون عجينهم في الأفران قبل أن يختمر، ويقفزون من الأماكن العالية قبل أن يكتمل نمو ريشهم، يحاولون كتابة أسمائهم في كل مكان، وعلى كل شيء، فلا أحد يقرأ أسماءهم المكتوبة بسرعة وتسرّع، يستعجلون الوصول.. فلا يصلون.
يزدادون سمنة، يكبرون ويتضخمون.. لكنهم للأسف لا ينضجون.
إن الصبر صفة شريفة عالية الدرجات، لا يرتقيها إلا من كانت نفوسهم طاهرة، وقلوبهم نقية، فجميعنا يعرف الصبر، لكن قلة اختبروه.
(وقد يكون لصبر لحظة، راحة لعشر سنوات.. فأصبر الناس من كان رأيه راداً لهواه، ومن أحب البقاء فليُعدّ للمصائب قلباً صبوراً).
إن الصغار لا يكبرون، وإن ظن الكثير منهم أنهم صاروا عمالقة، فأن يكبر الإنسان ويزداد عمره شيء، وأن يكبر وينضج ويفهم الحياة شيء يختلف عن كل شيء، فالنضج مثل الشهرة، لا يحدث إلا لقلة قليلة من البشر.
(والصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب.. وإن اللئام أصبر أجساماً، والكرام أصبر نفوساً).
ما أكثر الذين يتحركون ويركضون دون صبر أو قوة احتمال، مثلهم مثل المراوح وطواحين الهواء: حركة سريعة، لكنها في المكان نفسه!
إن الإنسان يوجد نطفة داخل الرحم، وكي ينمو ويصير لابد من الصبر عليه حتى يكبر يوماً بعد يوم، وبالتدريج يصبح جنيناً، ثم وليداً، ثم طفلاً، فرجلاً فكهلاً. وهكذا هو أي عمل في الحياة، كي يرتفع ويعلو لا بد من العمل فيه وحوله والصبر عليه حتى يكبر ويكتمل.
وللصبر أنواع.. فهو متعدد الألوان والأصناف والأشكال. ومنها صبر الإنسان على الإنسان، وصبر الحيوان على أبناء البشر.
ولم أجد في هذه الحياة أصبر علينا من الأرض التي تحملنا، فهي رغم حفرنا فيها ليل نهار، ورغم تخريبها وتفجيرها وتدميرها في كل يوم مئات المرات، لا تكف عن حملنا واحتمالنا، وفتح ذراعيها لنا في نهاية المطاف، كي تضمّنا إلى صدرها الحنون إلى الأبد!