نهايات غير سعيدة

لم تك البداية التي انطلقت من مقدمة خاطئة، ستصل إلى نهاية صحيحة أو (سعيدة). وللرغيف فلسفة كما لغيره من سلع ومواد ضرورية لحياة الإنسان، أي أن زيادة سعر كيلو الخبز والسكر والرز، وما يتبع بعد أيام أو أسابيع أو شهور من زيادات، يعدُّ الخطوة الأولى في رفع الدَّعم عن هذه المواد.  وهذا يعني لمن يمتلك الحد الأدنى من الذكاء لفهم فلسفة الرغيف، أن الحكومة الحالية ستسلّم مفتاح مستودع رفع الدعم إلى الحكومة القادمة وتنزل الحمل عن كتفيها.

ما يزال ابن الريف يتذكّر مهما طال الزمن ومهما بهرته أضواء المدينة وثورة الاتصالات، يتذكّر كيف كانت أُمّه توقد الجلّة أو الحطب وتخبز قبل شروق الشمس، فتأخذه رائحة خبز القمح الحوراني أو الجزراوي .. وأي مار في الطريق يُدْعى لتذوق رغيفاً ساخناً لذيذاً..!

وكي لا ننسى طعم الخبز المصنوع من قمحنا، علينا أن تنذكّر الأغنية المشهورة للمرحوم ناظم الغزالي التي جاء فيها (من ورا التنّور تناوشني الرَّغيف، يا رغيف العمر يكفيني سنة..). وكيف أن أبا العتاهية لن ينسى رغيف الخبز فقال:

رغيفُ خبزٍ يابسٍ

تأكُلُه في زاوية

وكوزُ ماءٍ باردٍ

تشرُبُه من صافية

لقد حثَّت زيادة سعر الخبز المواطن السُّوري، أن يبحث من جديد في معتقدات الشعوب ومعتقداته وتفسيراته الخاصة، عن الخبز وأهميته في الفولكلور منذ عهد الفراعنة وغيرهم حتى هذا اليوم، وكيف كانوا يدفنون أرغفة الخبز  والطعام مع الميت، وكان البعض يدفن رغيفين فقط (أحدهما يابس والآخر ليّن).

ويمكن للحكومة ولمن يتابع زراعة القمح في سهول سورية الخصبة الجميلة وإنتاجها، أن ينظر إلى الفلاحين والحصادين وشقائهم، وكيف يفلحون ويزرعون ويحصدون، أن يقف على أهمية الحصول على الرغيف.. وأن يقرأ هؤلاء إذا كانوا من محبّي المطالعة، دلالة مفردة الخبز في الأدب من شعر ونثر ومقالات وخواطر وغيرها التي تعبّر عن الواقع المعيش للناس. وما عليهم إلاَّ أن يستعيدوا قصيدة نزار قبّاني (خبز وحشيش وقمر) ودلالتها المعبرة عن القوت والكيف والرومانسية. وكذلك تعددت استخدامات محمد الماغوط  لمفردة (الخبز والرغيف) في كتاباته نظراً لارتباطه الوثيق بالكادحين من جهة، وهو الشاعر الفقير المتنقل بين جهات الوطن الأربع، شاكياً، باكياً من أجل الحصول على رغيف يسدّ رمقه من جهة ثانية..! ورواية (الخبز الحافي) للأديب المغربي محمد شكري، التي ظلّت حبيسة الأدراج عشرين عاماً ومنعت الرقابة نشرها. وعندما أفرج عنها أحدثت عاصفة من النقد بين التأييد والمعارضة. وتغنَّى البردوني الشاعر اليمني الكفيف بالرَّغيف في قصيدة له تحت عنوان (من منفى إلى منفى)، وهو يحلم بكسرة خبز لأبنائه الجياع الذين ينتظرون عودته وهو يحمل لهم الأرغفة حتى ولو كانت يابسة..!

وقد حفظ ألوف الشباب والصبايا والمواطنون العرب مقاطع عدة من قصيدة الشاعر محمود درويش (أحنُّ إلى خبز أُمّي). وعنون عديد الشعراء قصائدهم بـ (رغيف الخبز) كما في قصيدة للشاعر الأردني وليد عواد البزايعه يقول فيها:

هذا رغيف الخبز قد أشقانا

والمرءُ بات يعيشه حيرانا

من بعد ما كُنَّا نعيش بغبطة

اليوم أمسى بعضنا جوعانا

وقصيدة بعنوان (مصرع رغيف) للشاعر إسماعيل بريك جاء فيها:

رغيف الخبز يحتضر احتضارا

ويصرخ طالباً عَوْناً مرارا

أتاه الفقرُ في دمه فأضحى

بلا لون ولا طعم يُجارى

ومن عجب الليالي أن تراه

صغير الحجم ينحدر انحدارا

هذا هو رغيف الخبز بشكله وحجمه وتاريخ دخوله إلى التنور والفرن، تظل رائحته منعشة وهو يخرج مقمّراً، والفقير حين يؤمّن الخبز لأسرته ينام سعيداً ويترنّم بالقول: (لا تهتم بالغد فالغد يهتمًّ بنفسه)… وينسى مقولة (الرغيف يركض وأنا أركض وراءه..!). وإذا تناول الأولاد طعام العشاء وناموا وبطونهم شبعة فهذه السعادة بعينها.. وإذا رفعت الحكومة القادمة الدعم عن الخبز والسكر والرز فستتجلد المعد الخاوية من شدة الجوع..؟!

العدد 1140 - 22/01/2025