أمواج..!

ما إن نطقت بكلمة أمواج حتى قال لي وهو الذي يعرفني عن قرب ويعرف مدى العلاقة غير الجيدة بيني وبين البحر والأمواج:

(يا أخي أنت شو الك علاقة بالبحر والأمواج.. دع غيرك ممّن ركبها وتمايل معها وتلاعبت به وأخفضته ورفعته ليحدثنا عن تلك الرحلات والصراعات والحركات مع الأمواج. أمّا أنت فلا والله لن نسمح لك بأن تحاضر علينا فيما لا يعنيك.. والله لن نسمع منك أيّة كلمة).

طبعاً من باب الود قبلت منه كل هذا الكلام وأنا أعترف في سرّي أن كل ما جاء به صحيحاً، وقبل أن أدعه يلتقط سؤالاً يحرجني به عن تلك الالتواءات الزاحفة باتجاه الشاطئ لتشهد فصل نهايتها الأخير، قلت له وأنا أحاول تثبيت الرقم الخاص بإذاعة أمواج عبر هاتفي الجوال لنستمع إلى أحد برنامجها الخاصة بالفنان الكبير الخالد وديع الصافي، لاسيما أنني كنت من عشّاق أغنية (عندك بحرية يا ريس):

أنا أقصد أمواج الراديو ولست في وارد الحديث عن الأمواج التي تفاخر كلما ذكر البحر أمامك بأنك قد طوّعتها وكسرتها وروّضتها وأنت تقودها باتجاه الشاطئ.. الأمواج تعرف طريقها جيداً إلى الشاطئ.. الأمواج تحب الانتحار على رمال الشاطئ.

صديقي الذي كان يجلس بجانبي في السفينة ونحن نتجه إلى جزيرة أرواد بمهمة رسمية قال وقد تغير لونه:

البحر اليوم على غير عادته.. الأمواج كأنها جبال ترتفع أمامنا.. أخشى أن يغضب البحر..

 قلت وأنا أكتم جزعي:

لا تكمل أطال الله في عمرك ورحم الله من مات لك منذ سيدنا آدم.. يا رجل هذه المرّة الأولى التي أمتطي بها ظهره.. وقبل أن يدعني أكمل طلب مني النظر من خارج النافذة فتحايلت عليه بأن بدأت أبحث عن تردّد أمواج، فقد اقترب موعد الحلقة والبحر والبحرية.

 

(2)

كتبت لي ذات يوم بعد أن امتلكت الجرأة وتحدثتْ عمّا يختلج في داخلها:

أنا كالرمل على الشاطئ أحترق بلظى غيابك.. هل من صيف هادئ تتسلل فيه أمواجك وهي حاملة معها ما أمكنها من برودة تطفئ لهيبي وترطّب جسدي وتروي ظمئي؟!

قلتُ وقد تحوّلت إلى موجة عابرة:

تطلبين مني ذلك وأنا الذي لم أعتد أن آتي إلاّ في الشتاء؟!

قالت وقد تحوّلت إلى بحيرة صغيرة:

قد تكون معتاداً على الشواطئ الصخرية.. تلك الشواطئ لا تفهم لغة الأمواج إلاّ إذا صفعتها بقوّة.

لم تكمل حديثها بل اختفت تحت صدفة كانت تهتز بين الحين والآخر.. تنهّدتُ بعمق، وبعد تفكير طويل قررت زيارتها في أول صيف عابر.

 

(3)

لم أكن على موعد مسبق معها.. فجأة ظهرت أمامي.. توقفت.. نظرتُ كمن صعق.. سألت نفسي عما إذا كنا التقينا من قبل.. أدرت شريط الذاكرة.. فتشت عن صور وأسماء.. لم تشبه من عبروا شريط الذاكرة.. صعدتْ.. دون أن تتكلم.. (عندك بحرية ياريس).. صوت المذياع كان ضعيفاً.. مددت يدي.. أصبح أكثر قوة.. قالت:

هل تحب البحر؟!

التفتّ إليها وعلى وجهي آلاف النوارس البيضاء التي تحوم حولنا وقلت:

طبعاً..البحر والأمواج أيضاً.. قالت:

 وأي الأمواج تحب؟!. قلت وقد أحسست أنني أقترب من ضفافها:

أيّة أمواج تقرّبني من الشاطئ.

قالت وقد رفعت نظرها فأحسست بقوّة تسحبني إلى شاطئها:

بما أن لكل إنسان أمواجاً مرافقة له تلتقي مع أمواج أشخاص يشبهونه بطبعه، فيمكننا القول إن اختلاف أطوال الأمواج التي يصدرها الإنسان تختلف باختلاف الطبائع في العلاقات الإنسانية، ومن هنا فإن مجموعة الأشخاص الذين يتسببون بالمشاكل مثلاً يجدون أنفسهم عن طريق مصادفة أو لقاء أو غير ذلك أكثر من الأشخاص أصحاب الأخلاق العالية، ولهذا نقول بأنّ الأشخاص أصحاب المشاكل يملكون أمواج طويلة بعيدة المدى، أما الأشخاص الطيبون فيكونون أصحاب أمواجاً طويلة لكنها قصيرة المدى.. لم تدعني أصل إلى شواطئها، إذ أضافت:

الأمواج التي تتوافق بالأطول تحقق توافقاً بالعلاقة والأمواج القصيرة تنتشر لمدى بعيد، لهذا نلاحظ أصحاب الأمواج القصيرة يجتمعون فوراً لأن المستقبلات عند الإنسان ترصد الأمواج فوراً.

أدهشتني وقد تحولتُ إلى محيط بكامل ظلّها يرسل آلاف الأمواج الهادئة، أما عيناها فكانتا ترسلان ترددات لموجاتها الطويلة قصيرة المدى.!

العدد 1140 - 22/01/2025