إجراءات حكومية تدفع الفلاحين لتسليم أقماحهم للتجار

لكلّ حبة قمح تدخل صوامعنا تأثير، وهي تسهم بشكل أو بآخر بتعزيز الأمن الغذائي، الذي افتقدناه منذ نحو تسع سنوات لأسباب كثيرة، أهمها تفريط الحكومات السابقة به، وتعاقب سني الجفاف. ومع بدء موسم تسويق محصول القمح، الذي يتركز بشكل رئيس في المنطقة الشرقية، ولاسيما في محافظة الحسكة، خزان سورية الأول من الثروات ومنها القمح، يبرز سؤال: هل سيسلم الفلاحون أقماحهم إلى المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب؟ مشروعية السؤال مستمدة من موقف سابق للحكومة يتعلق برفضها تمويل زراعة المحاصيل الاستراتيجية للمقترضين الذين لم يسددوا التزاماتهم المالية للمصرف الزراعي التعاوني، ما أدى إلى تراجع المساحات المزروعة، لاسيما أن الكتلة الأكبر لهذه الديون هي من حصة محافظة الحسكة.

تقدر كمية أقماح الموسم الحالي بـ2.3مليون طن، وفقاً للمعنيين، وترى الحكومة أنها تقدم سعراً تشجيعياً ومحفزاً للفلاحين، لتسليم محصولهم لمؤسسة الحبوب: 45 ليرة للكيلو غرام الواحد من القمح القاسي، و44 ليرة للكمية ذاتها من الطري. لكن هذا السعر يقابله تكلفة إنتاجية مرتفعة، بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من بذار، وأسمدة، وكلفة الري، نتيجة الارتفاع المتتالي للمحروقات، الذي كان أكبر تحدٍّ واجه مزارعي القمح المروي… وغيرها من الحقائق التي تعد مشكلات حقيقية وقفت أمام منتجي القمح، الذين تُركوا بلا حماية أو رعاية، وواجهوا ظروفاً قاسية غير مناخية بالضرورة. ولاندري كيف حاولت الحكومة إقناع الفلاحين بأنها ظلت تدعمهم، وتقف إلى جانبهم، بعدما رفعت كل غطاء الحماية والرعاية عنهم؟ إلا أنها – أي الحكومة – لم تقصّر اطلاقاً في مجال التصريحات التي تؤكد أنها إلى جانب الفلاحين، ومستعدة لتقديم ما يحتاجونه، وهذا كلام ليلٍ لم نجد أثراً له على أرض الواقع. و يمكن اعتبار أن ما قدمته الحكومة في الفترة الماضية، اقتصر على حالة مجردة ومثيرة هي الدعم بالكلام، والدعم بالتصريحات. إذ لم تستطع الجهات المعنية بزراعة القمح وعلى رأسها وزارة الزراعة، أن تساعد فلاحاً ليصل إلى أرضه، ولم تسانده في ريّ محصوله لمواجهة انحباس المطر، ولم تقدم له البذار والأسمدة إلا في حالة وحيدة: أن يكون بريء الذمة تجاه المصرف الزراعي، وبالتالي كانت الاشتراطات على الفلاحين أكبر بكثير من قدراتهم على التحمل، رغم أن الفلاح المتمسك بمهنته، والرافض التخلي عنها، هو من أكثر المنتجين مساهمة في دعم الاقتصاد الوطني، ليس في هذه الفترة وحسب، إنما قبل الأزمة في سورية.

 الآن، ما يشجع الفلاح على تسليم محصوله لمؤسسة الحبوب، في واحد من 31 مركزاً مخصصاً، عاملان أساسيان، هما السعر المغري، والتسهيلات المطلوبة. وما عدا ذلك يبقى في إطار الدعم بالتصريحات، لأن التجار وسماسرة القمح سيأتون إلى الفلاحين كعادتهم، ليشتروا منهم القمح، بأسعار ليس بالضرورة أن تكون بخسة، بل من المتوقع أن تكون كما هي الأسعار الرسمية، والقبض مباشرة (كاش). ولن يتكلف الفلاح أية مصاريف أخرى تزيد من أعباء الكلفة عليه، ولن يدخل في أتون المعاملات الورقية والروتين الإداري حتى يتسنى له استلام قيمة أقماحه. هذه حالة ستكون موجودة، ولن تخفى على أحد، ولها أسبابها الكثيرة، وأبرزها حرمان الدولة من ثرواتها، كما حصل في موسم العام الماضي، عند قيام مجموعات محددة بشراء القمح وتهريبه إلى الخارج.

تدفع الحكومة مليارات الليرات، لاستيراد الطحين، بينما تبدد ثروتنا من القمح تحت ذرائع مختلفة، ففي الموسم الماضي طُلب من الفلاح تسليم محصوله في مراكز التسليم رغم صعوبات النقل وتعذره أحياناً، فوقف الفلاح أمام حلين أحلاهما مر، المجازفة غير محمودة العواقب في نقل محصوله، أو البيع للتجار مباشرة.  إلا أن هذا الموسم مختلف، ومع ذلك عمليات استلام محصولنا الاستراتيجي الأول، تسير ببطء، لأن المحفزات التي تقدمها الحكومة لتشجيع الفلاحين على تسليم محصولهم هزيلة، وبالأحرى هي ليست بتسهيلات، كتأمين ثمن القمح، وأكياس الخيش اللازمة، وهو ما يمكن أن يقدمه التجار أيضاً، وعند تساوي التاجر مع الحكومة في تقديم التسهيلات، نعلم يقيناً أن الحكومة بإجراءاتها تدفع الفلاح لتسليم محصوله للتاجر الذي عينه إلى الخارج.

العدد 1140 - 22/01/2025