الخريف حين يروي

كعادتهم حيال كل موضوع أو فكرة، ينقسم الناس بشأن الخريف بين محبذ بل عاشق لهذا الفصل الذي (ورقو الأصفر ذكّرني فيك)، كما تقول السيدة فيروز، وبين كاره ناقم حاقد عليه، لا يرى فيه سوى هزيمة الخضرة أمام زحف اليباس.

لكل فريق مبرراته وأسبابه، المؤيدون (للخريف طبعاً) يرون فيه بداية الخروج من قيظ الصيف وحرارته العالية  إلى اعتدال الخريف، وهو كمرحلة انتقالية لا يصرّ على إلغاء بقية الفصول، ففيه بعض حر الصيف نهاراً وروائح الشتاء تفوح منه ليلاً، فيما يقف الربيع بعيداً بملء إرادته.

أما المعارضون الذين لا يعجبهم العجب وينقبون دائماً في النواقص والسلبيات، فيرون فيه رحيل الحياة الكامنة في خضرة أوراق الشجر، وطغيان الموت المتمثل في وقوف أشجار، كانت بالأمس عامرة بالأفياء، عارية باهتة لا يستر جسدها سوى حلم ربيع قادم.

وفيما اشتعل النقاش الحامي بين الفريقين وتطور إلى تخوين وعراك، تساءل مراقب محايد عن دلالة الاسم، من أين جاء اسم الخريف؟ هل للأمر علاقة بالخرف؟!

ألقى سؤاله الدلالي المحايد ليوقف الحرب الطاحنة بين المؤيدين والمعارضين، الحرب التي تكاد تحرق الفسطاطين معاً. والمعنى في قلب الشاعر طبعاً، لكن حدث ما يشبه الإجماع للمرة الاولى في التاريخ العربي بأن الخريف من فعل خرف، أي جنى (الثمر).

آلاف الأعمال الأدبية، من روايات وقصائد وقصص قصيرة وأخرى قصيرة جداً، تناولت هذا العنوان الفسيح، الخريف.

غابرييل غارسيا ماركيز جعله عنواناً لإحدى أجمل رواياته (خريف البطريرك)، وقد حوّرها بعض قراصنة دور (النشل) عندنا الى (خريف البطريق) وما زالت تباع على أرصفة دمشق وبعض مكتباتها تحت هذا العنوان!!

الرواية من أصعب أعمال ماركيز، وقد اعترف هو مرة بأنه كان غالباً ما يكتب خمسة سطور منها في اليوم، والمكتوب واضح من عنوانه، إنه أفول وغروب طاغية، استعادة تاريخه الثقيل في أيامه الأخيرة، ولا رائحة لبطريق فيها.

ماركيز هنا أقرب إلى رأي المعارضين (للخريف طبعاً) ويرى فيه فصلاً للنهاية والرحيل، والحكاية نسبية دائماً حسب معلمنا أينشتاين، فالخريف بالنسبة لطاغية كطاغية ماركيز هو ربيع بالنسبة لشعبه، وربما لكل شعوب الأرض.

حنا مينه، القامة السورية العملاقة، الكاتب الذي رشحه نجيب محفوظ لنوبل، عنون أيضاً إحدى رواياته الرائعة ب (الربيع والخريف)، أورد الثنائية الصريحة بين ربيع نحلم به وخريف نعيشه ونتمنى أن يفرج عن مطر وشتاء واعد بربيع. لكن نعود إلى الاختلاف كظاهرة طبيعية بين البشر، لأن التشابه موت واستنقاع، والحياة هي، في أولى وأهم تجلياتها، اختلافٌ وتغاير، فيتعاقب الليل والنهار، تتعاقب الفصول، يتغير وجه السماء مرات كل يوم، الجسد البشري لا يبقى على حال، الروح أيضاً لها منعرجاتها وسهوبها، قممها وقيعانها.

ذات خريف كان أبناء القرية الصغيرة القابعة على تخوم النسيان يجنون آخر محاصيل الخضار والتين والعنب، قدم رجل غريب الى القرية، وكان يحمل على كتفه بندقية، ظنها الفلاحون بندقية صيد كتلك التي يحملها الآغا وأعوانه، استقبله الناس وأطعموه وسقوه ما تيسر، ودعوه إلى الإقامة في القرية والعمل في أراضيها، شكرهم الرجل، وروى لهم أنه مطارد مظلوم، رمته عشيرته بسبب فتاة أحبها، وكان الفصل خريفاً كما قلنا، والينابيع في أنفاسها الأخيرة قبل المطر، والشجر ينتظر.

بعد سنوات كان الرجل قد قتل الآغا، واستولى على قصره وأمواله ونسائه، لكنه حافظ على أهل القرية عمالاً مياومين في أرضه التي اغتصبها، وزاد في عسفه حتى صاروا يترحمون على الآغا السابق، لم ينتبه الفلاحون البسطاء المسالمون إلى أن البندقية التي يحملها لا يمكن أن تبني حياةً، وكان الفصل خريفاً.

بعد سنوات طويلة، وكان الرجل ذو البندقية في أرذل العمر، وقد تزوج عدداً كبيراً من النساء، وأنجب عشيرة من البنات والبنين، هبت ريح عاصفة على القرية وجوارها، اقتلعت أشجارها وطافت أنهارها وهب فقراء القرية ليخففوا عن بعضهم آثار الطوفان، لم يظهر أثر لرجل البندقية، هرب هو وأولاده إلى مكان مجهول، بقي الفلاحون يضمدون جراح الأرض ويعيدون الحياة إلى أرض أراد أن يهزمها الموت.

وصار الوقت ربيعاً..

العدد 1140 - 22/01/2025