مجرّد رمية نرد

يسأل كاتب ذاته: ترى من الأسبق، الكتابة أم الكاتب؟!

والجواب الطازج في الذهن، هو سؤال مراوغ بالضرورة، إذ إنه لا يفسر بالضرورة، لماذا أصبح (سيزيف) المعاصر حمالاً للحجارة، بدلاً من دفع أو إسناد صخرته الوحيدة، أو لا يشي بمن خدع الآخر: (بروميثيوس) أم ناسخوه المعاصرون، إذ لم نتفق على أين تضع شعلة المعرفة التي وهبت لبروميثويوس الأسطورة أوزارها. وعليه ذهبت جدليتا الخير والشر، والحب والكراهية، لمجرد فضاء افتراضي، وإلا فماذا تقول بضع روايات قرأناها أملاً بأنها ستضيف لها حياة جديدة!

يتساءل ناقد حصيف بأسى بالغ، ولعله يواسي قلقاً معرفياً بامتياز: (ما الذي يدعونا اليوم إلى قراءة رواية لقادم جديد، يدخل إلى الكتابة الروائية متوجساً قلقاً، أو يدخل إليها بخفة غليظة تتاخم الوقاحة؟ والسؤال هو: لماذا نقرأ الروايات)؟

ومرجح ذلك (الأسى) فيما يبدو هو (الخطف خلفاً) لزمن يحتفي بترجمة أنيقة لرواية مثل (موبي ديك) يتصل بزمننا إلى أن يعيد أجمل الروايات لمبدعينا الكبار، أمثال حنا مينه إلى فضاءات اللغة البصرية، هكذا يكتب حنا مينه (مصابيحه الزرق) مجازاً من جديد. وللفرنسيين الشغوفين بأدب الحرب كاصطلاح غير منته أن يذهبوا لترجمة رائعة اللبناني الفذ توفيق يوسف عواد (طواحين بيروت). ثمة العشرات من الأمثلة.. ولكن هل يعني ذلك أننا سننتظر كثيراً من يبدعون بصمت، أولئك الذين يأخذوننا إلى الحياة الجديدة فعلاً، الزاخرة بأسئلة الحب والانتظار والغناء، والفناء، والحوار والجموح والتحليق، تؤنسن الذهول والخوف، لا أن تنشغل بذكورية أو أنثوية الصمت مثلاً. ولم لا تمنح جائزة لرواية قبيحة على غرار جوائز الفن؟ ألم يقل النقاد بجماليات القبح؟

يقولون: رواية جميلة، ولا يقولون بإغرائها، أو يصح العكس، وهكذا يتشظى عقل قارئ مسكين أمام أحجية كهذه، لطالما خشي شعراء من جنون التوازن أكثر من جنون الجنون!

وتسأل الكتابة قارئها: هل تخرج مهزوماً إن لم تقرأني، أو تراها الهزيمة ذاتها إن قرأتني؟!

لا يجيب القارئ، حسبها مصادفة الأمل التي يتوسلها كي لا يفقد مبرر قراءته، لينجز مصالحة مع متخيله المفقود، ليحتال على اللغة يغير صوتها ونبضها، لعلها صفقة مع قلم وجنون!

الكتابة أو اللاكتابة، المدين والمدان، والذنب الذي يتلبس القارئ، هو أسر النظرة الأولى، كما في العشق أيضاً في القراءة، طيوف جميلة، أم استحواذ كمن يطبق كلتا يديه على وردة، يطبق على فجواتها، يحسبها مجرد نقائص، أو فراغات كسولة.

ما زلنا نستبطن أدب الحياة، حتى في درامية (النكتة)، هل تشبهنا أم تشبه ذاتها؟ فنحن لا نضحك من أجل الضحك، بل لنولم لأحزاننا فضاء، ذهب الضحك والحزن، وجاءت الكتابة. ولكن متى تأتي الفكرة، والفكرة لعبة ما، رمية نرد إما أن نقف وكأن على رؤوسنا الطير، أو نستلقي على ظهورنا إثر ضحك ثقيل، لم يعد يحتاج إلى بناء محكم: السرد وطريقته، بناء الحدث وجاذبيته، أصبحت (النكتة) خطفاً خلفاً، كما في الأفلام والروايات، مثلاً: سرقت رواية من مكتبتي من زمن بعيد، يا للمصادفة الغريبة وأنا أجدها في إحدى مكتبات الطريق، سارعت لتفحص الإهداء وتاريخه، كان علي أن أشتريها بأضعاف ثمنها الحقيقي. إذن عليّ قراءتها من جديد، لأكتشفها ولا سيما تلك الخطوط الناعمة بقلم الرصاص تحت سطور بعينها، هل كنت أنا وضعها، أم أحداً غيري. وهكذا أدخل رويداً فيما يسميه صاحب (العطر) زوسكند (بفقدان الذاكرة الأدبية) أو تراني سأحتاج إلى الغناء على قيثارتي  كما أورفيوس  حتى يرقَّ قلب النسيان، حتى أستعيد كتابي من لصٍّ إضافي: الزمن.

العدد 1140 - 22/01/2025