بعد فوزه بجائزة «أفضل ترجمة أدبيّة» في الولايات المتحدة وكندا «في حضرة الغياب» باللغة الإنجليزية في نيويورك
صدرت عن مؤسسة (كتب آركيبالاغو) بمدينة نيويورك- منذ أيام – الترجمة الإنجليزية لكتاب (في حضرة الغياب) للشاعر الفلسطيني محمود درويش، للروائي والشاعر العراقي سنان أنطون، الذي أكد أن تصديه لترجمة هذا الكتاب مثّل تحدياً كبيراً.
ويندرج هذا العمل المترجم ضمن ثلاثية نثرية، تضم إضافة إلى (في حضرة الغياب) (2006)، كتابيْ (ذاكرة للنسيان) (1987)، و(يوميات الحزن العادي) (1973)، وقد نزع فيها صاحب (أثر الفراشة) إلى توثيق سيرته الشخصية والشعرية التي قدّمها أيضاً عبر ديوانه الملحمي (جدارية).
وكانت هذه الترجمة قد حازت على جائزة أفضل ترجمة أدبيّة في الولايات المتحدة وكندا لعام 2012. وهذه هي أوّل مرة يفوز بها عمل أدبيّ مترجم من العربية بهذه الجائزة منذ استحداثها عام 1998. وسبق أن حازتها ترجمات لأعمال (رافائيل ألبرتي، وأنطون تشيخوف، وفكتور هوغو، وفردريك دورنمات وغيرهم).
وقد كتب صاحب الترجمة في مقدمة الكتاب: (لقد كان درويش في هذا العمل في قمة عبقريته وإبداعه، مع إدراكه أن موته قد أصبح وشيكاً، فاستجمع كل خبراته وطاقاته لينجز هذا النص المتوهج الذي يتحدى التجنيس الأدبي).
وأضاف أنطون: (كان الشاعر قد مرّ بتجربة الموت مرتين، وكتب عن التجربتين في قصيدته (جدارية)، والآن حان الوقت ليقوم بتوديع نفسه، قبل أن يودعه الآخرون، وليكتب رثائيته الشخصية).
الشاعر المترجم:
(أجمل كتاب قرأته في حياتي)..
كما أشار أنطون في المقدمة إلى أن اشتغال الشاعر الراحل محمود درويش على هذا الكتاب -النص يختلف عن كتابيه النثريين السابقين. فهذا (النص ليس مجموعة شعرية ولا عملاً نثرياً عادياً، بل هو عمل يأخذ القارئ مباشرة إلى فضاء درويشي تلتقي فيه الأضداد وتفترق، أضداد الحضور والغياب، والشعر والنثر، والوطن والمنفى..).
ويرى الشاعر والمترجم العراقي في الكتاب أكثر من عمل في السيرة الذاتية، ويبرر الأداء الشعري لدرويش في كتابته النثرية بأن (درويش في هذا النص، كما هو في الحياة، شاعراً أولاً وقبل كل شيء، وقد كرس حياته وحلمه بكتابة الشعر، ولذلك فإن الخيط الناظم لنصوص هذا الكتاب يستدعي خبرة وعبقرية شاعر عاش الحياة في الشعر ومن أجل الشعر).
ووصف أنطون تصديه لترجمة الكتاب – في تصريحات له لوسائل الإعلام العالمية – بأنه (كان تحدياً كبيراً، ولكنه كان عملاً لا بد من إنجازه). وأضاف: (فور انتهائي من قراءته اتصلت بمديرة دار نشر كتب (آركيبالاغو) وقلت لها: لقد انتهيت من قراءة أجمل كتاب قرأته في حياتي، وسوف أقوم بترجمته، وقد وافقت على نشره بلا تردد).
وتعدّ ترجمة صاحب (سرير الغريبة) إلى اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات العالمية، تأكيداً لما ذهب إليه صديقنا الشاعر والروائي والمترجم التونسي محمد علي اليوسفي من أن (محمود درويش شاعر كوني).
وكان صاحب (لا تعتذر عما فعلت) قد انضم – منذ سبعينيات القرن الماضي – إلى لائحة كبار الشعراء العالميين، أمثال: (بابلو نيرودا، وليوبولد سيدار سنغور، وإيف بونفوا، وشيموس هيني، وأودن، وأوجينيو مونتالي، ورافاييل ألبرتي، وريتسوس، وآلن غينسبرغ، وسواهم)، من الذين فازوا بجوائز ميزته عالمياً، مثل جائزة اللوتس (اتحاد كتّاب آسيا وإفريقيا) ،1969 وجائزة البحر المتوسط ،1980 وجائزة (ابن سينا) في الاتحاد السوفيتي ،1982 وجائزة (لينين) في الاتحاد السوفييتي ،1983 وجائزة الأمير كلاوس الهولندية ،2004 وجائزة (لانان) لحرية الثقافة ،2001 وجائزة الإكليل الذهبي (شاعر العالم المبدع)، (تمنح خلال مهرجان شتروغا الشعري، في مقدونيا) 2007. كما نال في العام نفسه جائزة القاهرة للشعر العربي، (ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي)، وجائزة (غولدن ريث) العالمية، وجائزة (الأركانة) العالمية للشعر في المغرب 2008.
شاعر تأمل موته بنثرية غنائية..
في حديث صحفي معه، استشهد أنطون بقول جاك دريدا: (إن كل نص يبقى في حالة حداد (أنين) حتى تتم ترجمته). وقال: (هذه الترجمة هي تعبير عن الحب لدرويش وتحية لعبقريته وشعره. إنها تضع حداً لفترة الحداد التي أعقبت حياته، وهي أيضاً احتفال بوجوده الدائم في حياة قرائه، من خلال كلماته وحياته بينهم).
وفي مقالة له بعنوان: (في حضرة الغياب) لمحمود درويش: لقاء العابر والأبدي، قال الناقد الأكاديمي الدكتور فيصل درّاج عن هذا النص: (في هذا الكتاب يتأمّل درويش (بقيّة العمر) المنفتحة على مستقبل لا يُركن إليه، وعلى ماض محدّد الزمن، أعطته الكتابة اتساع الحياة. كتاب عمّا كان وانصرف مراوغاً، وعن الذي سيكون وليس له مكان، فما سيأتي قلّص الماضي أعضاءه كثيراً… نص عن التجربة التي استأنستها الكتابة، وعن الكتابة التي اختلفت إلى أكثر من تجربة. كل شيء يلتفت إلى الوراء مستدعياً حنيناً إلى ما مضى عابراً، أو تلامع خلسةً ولم ينجز العبور. (ليس الحنين ذكرى، بل هو ما يُنتقى من متحف الذاكرة)، يقول الشاعر، قبل أن يقول: (الحنين وَجَع لا يحنّ إلى وَجَع). ليس في متحف الذاكرة إلاّ ما يؤرّق الذاكرة: الموت واللانهاية والشوق القليل الكلام والهجس بقصيدة لم تكتمل… كل ما تبقّى (يلتفت) إلى الفناء وإلى مجهول يعقبه مجهول، متوسلاً المتبقّي من كلام ذاتي يقترب من الفرادة، يردّ على الموت بحياة اللغة. يصل درويش، الذي يجابه الموت بإبداع صعب الذبول، إلى أقاليم: الروع والرائع والروعة، إذ في الفناء ما يروّع، وفي الكلام الذي (يداعب الفناء) روعة خالصة. يتراءى المتبقّي في الإبداع الذي يرسم الموت بكلمات (لا تموت)، ويحوّل (الكلام الأخير) إلى شهادة عن لقاء الإنسان والعدم. و(الكلام الأخير) أسى ووعْد وهجران وخلاص. لأنّ الذي ينجز كلمته الأخيرة، قبل وصول النهاية، يجعل منها بداية لكلام جديد. إنه التحرّر من الموت قبل وصوله، وانتقال الشاعر المعافى من وطأة القول الضروري إلى فضاء الكلام الطليق: (من يملك وقتاً أكثر يتحرّر من خشية الزمن).(في حضرة الغياب) سيرة ذاتية في سير، أو سير متجاورة في سيرة ذاتية، أو سيرة إبداع خاص اتّخذ من الحنين موضوعاً له).
وقد حمل غلاف الكتاب إشادات لشعراء عرب وأجانب بمكانة صاحب (كزهر اللوز أو أبعد) في المشهد الشعري العالمي وبالترجمة التي قدمها أنطون، فكتبت الشاعرة الأمريكية ماريلين هاكر: (في هذا العمل الفريد الذي يجمع الشعر والنثر، دوريش الذي يتعقبه الموت، كتب سيرة المنفى والعودة، بسرد غنائي، حيث كل فصل على حدة قصيدة لها منطقها الداخلي الخاص، وترجمة أنطون المتأنية والرشيقة تعيد خلق جمال العمل وسخريته وقوته لقراء الإنجليزية).
وقد وصف المترجم والكاتب ريتشارد سايبورث صاحب (حيرة العائد) بأنه (شاعر مهم يتأمل قريباً من الموت بنثرية غنائية بكل ما فقده: الحرية والوطن والطفولة والحب).
أما الشاعر العراقي سعدي يوسف فكتب: (إن تقديم أعمال محمود درويش إلى لغة أخرى هو مغامرة خطيرة، وما قام به أنطون عبر هذه الترجمة هو تعبير رائع عن الاحترام والحب. وقراءة هذه الترجمة تبعث على المتعة والسمو).
وكان قد تم الإعلان عن فوز (ترجمة الشاعر سنان أنطون للنص الدرويشي (في حضرة الغياب)، بالجائزة التي يقدمها (اتحاد المترجمين الأدبيّين في الولايات المتحدة (ALTA))، أثناء المؤتمر السنوي الذي أقيم هذه السنة في مدينة (روشستر) بين الثالث والخامس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي).
وذكرت لجنة تحكيم الجائزة أن نص (في حضرة الغياب) قد اختارته اللجنة بالإجماع، من بين 119كتاباً مترجماً صدرت في العام السابق ورُشحت للجائزة، ومرّت في ثلاث مراحل تصفيّة. وأشادت لجنة التحكيم بالمستوى العالي للترجمة وبالمقدمة والهوامش والملاحظات التي أضافها المترجم لإضاءة تفاصيل النص وخلفيته الثقافية والتاريخية للقارئ.