كم من سعدو عندنا ؟!

منذ بداية (المسألة السورية) المختلف على تسميتها حتى الآن، مروراً بما شهد بلدنا من مآزق ومآس، وإلى واقع حالنا الراهن. أكثر فأكثر، يعلو صوت المواطن/المواطن (نقصد الذي لا مصلحة له إلا مصلحة الوطن) بكثير أسئلة يصعب ويعسر، بل يستحيل عليه الإجابة عنها. في الوقت الذي مَنْ يجدر بهم أن يُجيبوا، يدارون.. يتهربون.. وفي معظم الأحيان (يُطنشون).

من أسئلة المواطن، تلك، التي ما انفك يلهج بها لسانه، في اليقظة وفي النوم:

إلى متى سيستمر حالنا، من سيئ إلى أسوأ؟

إلى متى سنبقى قادرين على كظم غضبنا وكبس جراحنا وكبت أوجاعنا؟

ثم، من المستفيد الحقيقي، من كل صبرنا ومصابرتنا وجلدنا ومجالدتنا؟

أخيراً وليس آخراً، ما المعنى المنطقي والمُقْنِع، الظاهر والمقنَّع، لما نرى ونقاسي، من التفاقم القفزي والمتتالي، لكثير من السلع الأساسية. التفاقم المترافق مع عدم تحريك ساكن للركود المُقلق، لمياه الأجور والرواتب؟!

علماً أن الجهات الرسمية المختصة، قد أقرَّت، في لقاءات وتصريحات بل ودراسات، أُجريت خلال الأزمة، تفيد أن المبلغ الوسطي، الذي تحتاجه الأسرة السورية المتوسطة العدد، كي تنشقل إلى مستوى خط الفقر، في ظل الأسعار المتحركة دوماً إلى الأعلى. هو، أي المبلغ المُقدَّر لحظتئذ وبمقياس (جاحظي) لا يقل عن /100.000/ ليرة سورية. فيما متوسط الأجور والرواتب في بلدنا، لا يتجاوز  /20.000/ ليرة سورية؟!

ولا أعتقد أن (ذلك المواطن )، سوف يقبل بعد اليوم تبريرات وأعذاراً مثل: الميزانية لا تسمح بزيادة الأجور والرواتب..

وضع البلد لا يساعد على منع الهدر وضبط التهريب..

أو، ليس الآن الوقت المناسب لمحاسبة كبار الفاسدين والمفسدين؟!

أما المسؤولون الذين لا يعرفون أحوال المواطنين السائلين. أو يعرفون و(لكن لتطمئن قلوبهم) إذا ما صادف وكانوا من ذوي القلوب الحنونة. فلا ضير بعد، في أن نقدم لهم، إضافة لما تقدم، كعيّنة، مثالين فقط عن هؤلاء المواطنين السائلين، غير المسؤول عنهم. هما (أبو خليل) و(سعدو الحلاّف):

* أبو خليل: معلم ابتدائي، يتقاضى شهرياً نحو /30.000/ ليرة سورية. يُعيل أسرة غير مؤتلفة، مؤلفة مِنْ والدين وزوجة، وأربع بنات. أكبرهن في الصف التاسع. في إحدى زياراتنا إلى بيت (أبو خليل) المعروف باتزان شخصيته ورجحان عقله، ضبطناه يدور حول (وجاق الحطب)، راقصاً بـ (العتيقتين) ومغنياً للسياسة الاقتصادية للحكومة وممثليها، ومن غير أن يسأله أحد منّا، (انبحت علينا ولمّا تزل العتيقتان طوع يديه، صارخاً في وجهنا معنّفاً، كأننا نحن (المسؤولون عن الخطط الاقتصادية والمواد الأولية بالبلد):

بالنسبة لي كمربٍّ أحترم نفسي، (يقول أبو خليل) لا تسمح لي مهنتي ولا ضميري، أن أسرق أو أُهرِّب، ولا أن أُحطِّب أشجار الطرقات، وغيرها من الأملاك العامة. في حين تدفعني حاجتي الملحّة، وعدم اكتراث الحكومة بي وبأمثالي – دفعاً قسرياً – ليس للبحث في الكروم والبيادر (والنبش في غير أماكن) بحثاً عن أحذية عتيقة ومُتهرِّئة، من أجل تدفئة بناتي الصغار ووالديّ العجوزين، فقط.

بل لا تستغربوا أن أُشرِّط يوماً ما على تلاميذي، مثلما كان يفعل معلمو أيام زمان، في عهديّ الاحتلال التركي والفرنسي لبلادنا. ألاَّ يأتي تلميذ إلى الصف، إلاَّ بصحبة (طبوع جلّي أو (شحاطة نايلو).

* سعدو الحلاّف: خريج جامعي من سكان السويداء، موظف فئة أولى، في مديرية مالية محافظة دمشق. تزوج سعدو متأخراً، بمساعدة والديه.. أنجب على كِبَر ثلاثة أولاد، بمساعدة رب العالمين، ووُظِّف أخيراً، بمساعدة أحد المُتنفذين.

شوهد سعدو ذات يوم دوام رسمي، يذرع طرقات القرية من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ذهاباً وإياباً بلا توقف. ولما سأله أبو نجيب السئّال، (الذي لا يسلم الطير الطاير من سؤاله، عن ارتفاعه عن الأرض؟.. وانخفاضه عن السماء؟.. ووجهة وهدف طيرانه) عن سبب تغيبه عن الدوام.

فأفاد سعدو، أنه قدَّم استقالته وترك الوظيفة. فعاجله أبو نجيب، سائلاً وبصيغة الاستغراب الاستنكاري، ماذا سيأكل هو وعياله، بعد تركه الوظيفة؟ ومن أين؟

أجابه سعدو: الذي كنتُ آكله قبل الوظيفة (طبق الأصل)، ومن المكان ذاته! ثم حلف له بحياة الحُرمة والأولاد، والآباء والأجداد. أنه قد حسبها وقدَّرها و(ليَّرها) و(قرَّشها) وهو المختص بالحسابات، فخرج بنتيجة أنه، وبعد الرفع الأخير لأسعار المازوت والبنزين، الذي يجر وراءه رفع أسعار معظم الحاجات. صار يلزمه فوق مرتبه /10.000/ليرة سورية، حتى يستوفي أجرة الطريق (بسَّ)، مشدداً على (الطريق) و(الـ بَسّ)، ومعاوداً الحلفان برؤوس كل الذين ذكرهم، وبرؤوس أُخرى!

إنه وباستقالته تلك، يكون قد وفّر على نفسه، غير العشرة آلاف التي كان سيستدينها، فيما لو بقي على رأس عمله. تعب المشوار يومياً، إلى الشام ومنها..

يرتاح من عذاب الانتظار المفتوح ذهاباً وإياباً على المجهول..

من معالجات السائقين في انفتاحهم على مضاعفة الأجور..

ومِنْ مساءلات نقاط التفتيش على الطرقات، المساءلات المشابهة في أغلبها الأعمِّ، لأسئلة (أبو نجيب)!

العدد 1140 - 22/01/2025