الرأسمال والأزمة: تناقضات كينز
(إنّ ما يريده دعاة التقشف هو خدمة مصالح الذين يُقرضون المال على حساب من يقترض ويعمل من أجل العيش) – بول كروغمان
في أ تشرين الأول 2008 بعد شهر واحد من اندلاع الأزمة المالية العالمية، عقدت كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية جلسة نقاش تحت عنوان (مستقبل رأسمالية السوق)، حاضر فيها أكاديمي مرموق هو لورانس سامرز، رئيس المجلس الاقتصادي الوطني التابع للرئاسة الأمريكية في أول عهد أوباما، ورئيس مؤسسة مالية ووزير فرنسي سابق.
أجمعت الجلسة على أنه بعد سنوات عديدة من الاعتقاد بأن الرأسمالية تضمن للأفراد الرفاه الاقتصادي، بدا جلياً في 2008 أن هناك (إحساساً متزايداً بأن الرأسمالية تفشل)، لأنها تنتج (حالة من الخوف وعدم الأمان وعدم المساواة… حيث المديرين التنفيذيون يتقاضون مداخيل تبلغ 350 مرة أجور العمال الأقل دخلاً)، كما توجهت الجلسة إلى مجتمع الأعمال (اأ يعترفوا بالحاجة إلى سياسات عامة للدولة لمواجهة القضايا التي تهدد مستقبل الرأسمالية، وأن ينظروا إلى ما هو أبعد من مصالحهم الضيقة والقصيرة الأمد، إلى ما هو نافع للمجتمع ككل، ولأعمالهم نفسها على المدى الطويل).
هذا الاستنتاج الأخير يعيد إلى الأذهان بعض الشيء، ولكن بشكل مخفف، ما نسب إلى لينين من قوله (إن الرأسماليين يبيعونك الحبل الذي ستشنقهم به). ففي تلك اللحظات العصيبة للرأسمالية الأمريكية والعالمية بدأت الثقة بتفوق رجل الأعمال مهزوزة، لأن الرأسمالية كانت على شفير الانهيار التام، لولا تدخل الدولة. فقد قال أحد مساعدي وزير الخزانة الأمريكي في تلك الفترة: (إن التدخل في خريف ..2008. أنقذ نظامنا المالي من الانهيار الكارثي… إن الاقتصاد كان في حالة سقوط حر… وإدارة أوباما واجهت بإجراءات عديدة… وكانت النتيجة أننا تراجعنا عن شفير الهاوية).
استفاقت أكثرية المحللين والسياسيين (مؤقتاً على الأقل)، ما عدا طبعاً الكثير من الاقتصاديين، من غيبوبة التطرف النيوليبرالي، إذ اكتشفوا أن ما كان يطلق عليه على نحو حيادي اقتصاد السوق الحر free market economy))، ما هو إلا الاقتصاد الرأسمالي، الذي لا يمكن فهمه من دون العودة إلى من سمّاهم بريان آرثر من معهد سانتافي في كتابه (طبيعة التكنولوجيا): مطلقي الومضات المضيئة في الفكر الاقتصادي، (مثل سميث وريكاردو وماركس وكينز).
يقول بيتر تيمين، أستاذ الاقتصاد في جامعةMIT: (عندما تنهار الأمور، يصبح الجميع كينزيين). ولكن لم تكن العودة إلى الكينزية على المستوى النظري بعد عام 2008 لأن الأكثرية الساحقة من الاقتصاديين بقيت في مواقعها الأيديولوجية السابقة للأزمة، بل كانت على مستوى سياسات الحكومات الواقعة تحت ضغط الانهيار الكلي للاقتصادات الرأسمالية. ففي الولايات المتحدة، تدخّل المصرف المركزي الأمريكي على نحو غير مسبوق بطبع العملة وشراء السندات والأصول الهالكة، وتدخلت الحكومة الأمريكية بالإنفاق الحكومي مع خطة أوباما في 2009. وقد كان لهذه التدخلات الوقع الأساسي في الإنقاذ من الانهيار، ولكنها أدت في الوقت نفسه إلى زيادة كبيرة في الدين العام وفي كمية النقد المطبوع، وإلى انخفاض الفوائد حتى المستوى الصفر، ما أخاف الرأسمال المالي من أن تكون الحلول الكينزية على حسابه، فأتى عام 2010 ببداية التخلي السريع عن الكينزية، وبداية مرحلة التقشف، وعاد الرأسمال المالي ليؤكد سيطرته الاقتصادية والسياسية بعد تراجع خلال 2008 ــــ 2009. بالنسبة إلى هذا الرأسمال، لقد كان كافياً أن يُنقذ النظام من الانهيار ولا ضرورة لمتابعة السياسات التوسعية المولّدة للنمو والتوظيف.
برهنت هذه التجربة العلاقة المعقدة بين كينز والرأسمالية، إذ إن الحلول الكينزية مرحلية، أي ليست حلولاً نهائية، بل هي تحمل في طياتها خطورة على النظام نفسه، وهذا ما روّع أصحاب الرأسمال المالي خلال هذه الأزمة، إذ رأوا فيها ملامح ما أطلق عليه (القتل الرحيم للريعيين). فكان رد فعلهم مختلفاً عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تماهت الكينزية مع أرباح رأس المال. حتى تراجع الكثير من الاقتصاديين عن مقولاتهم الأولية، مثل لورانس سامرز نفسه، إذ ساوى (في مؤتمر عام 2011) بين اقتراح لإدارة المصارف الكبيرة على طريقة مؤسسات السلع الخدماتية العامة، و(اشتراكية الدولة)، وهو الاتهام نفسه الذي ساقه غلاة النيوليبرالية ضد خطط الانقاذ المالي في 2009.
لم تكن الثورة المضادة كاملة عام ،2010 فإعادة عقارب الساعة إلى الوراء مستحيلة، إنما أطاح التقشفُ وسيطرةُ اليمين مرة أخرى سياساتِ أكثرية الدول بخلاصات حلقة هارفارد، وأصبح الخوف على المستقبل وعدم الأمان السمة السائدة لدى أكثر الطبقات في الدول الرأسمالية المتقدمة، إذ طاولت فترة الانتعاش في الولايات المتحدة، وترنح اقتصاد منطقة اليورو وغدا على حافة الانكماش، الذي إن تجذر فسيؤدي إلى ديناميّة ركودية طويلة الأمد.
نقد كينز الرأسمالية بشدة، وخصوصاً في تأثيرها على المدى الطويل في العدالة وطبيعة المجتمع في ظل سيطرة المال على دوافع العمل، وعلى أسس الأخلاق. ورأى في الفائدة والريع العائق الأساسي أمام تحقيق مجتمع منتج وعادل، لأن إنتاج المال يتعارض مع إنتاج السلع، ولكنه آمن بأنه عندما يصبح الرأسمال وفيراً فإن معدلات الفائدة وعبر السياسات العامة ستصبح منخفضة أوتوماتيكياً أو تتجه إلى الصفر، معلنة نهاية الريع، لكنّ الرأسمالية الآن تستعمل كينز في حالات الطوارئ، وتتناسى أفكاره النقدية، لأن سيطرة الرأسمال المالي تزداد، ولأن أفكاره نفسها حول الرأسمالية كانت مبعثرة، وشبّهها البعض بالأفكار الاقتصادية اللاهوتية، وخصوصاً في نقده للربا.
إن الرأسمالية في صراع مستميت الآن مع بوادر نهايتها، ومن أجل فهم أكثر لنهاية الرأسمالية، بانفجار عظيم أو بموت سريري، علينا أن نبحث في العلاقة بين الأزمة والرأسمال عند كارل ماركس، مؤلف (رأس المال) في القرن التاسع عشر، الذي لا تزال ومضاته تضيء الفكر الاقتصادي، الباحث عن أمل للإنسانية في ظل حطام الرأسمالية الآتي.
عن (الأخبار)