نحو استراتيجية تنموية جديدة
إن قضية التنمية هي القضية الأساسية، وتوجد هنا آراء مختلفة، من بينها من يرى أنه يجب أن تركن مسألة التنمية إلى جهود البورجوازية الوطنية في التجارة والخدمات والصناعة الخفيفة، مدعومة بجهود الدولة في استثمارات البنى التحتية والصناعات الكبيرة العالية والمكلفة، ومن بين هذه الآراء من يرغب في الاستمرار بالنموذج السوفييتي في تبني الدولة دوراً مركزياً في الاستثمار التنموي، ولا سيمافي الصناعة، واتباع سياسة حمائية منكفئة إلى الداخل وتركزه إلى محاولة توسيع القاعدة الإنتاجية من خلال استبدال المستوردات، ومنها من يروج لاستراتيجيات الانفتاح التي تحفزها مقادير الاستثمار المطلوبة والتقانة الضرورية المصاحبة لها، وتشجيع المؤسسات الدولية في واشنطن والغرب من أجل رفع معدلات النمو إلى الوتائر المطلوبة.
بيد أن مجمل هذه السياسات لم تنجح في الوصول بسورية إلى مرحلة الإقلاع في النمو الاقتصادي، أولاً، ثم التنمية المستدامة، مع الأخذ بالحسبان أنه لا يمكن النظر إلى مسألة النمو الاقتصادي على أنها مطابقة تماماً لمسألة التنمية الاجتماعية، وإنه من غير الممكن تصور اقتصار دور الدولة الاقتصادي على تنظيم التوازنات الاقتصادية والمالية الكلية، أي الاعتماد على تطبيق السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الكلية لتنظيم النشاط الاقتصادي بما يساعد في زيادة النمو بعدئذ، بل لا بد للدولة من توجيه الاهتمام الكافي لإقامة البنى الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة منها التعليمية والصحية والاهتمام بقضية الدخول والضمانات الاجتماعية، إضافة إلى بناء الطرق ومشاريع الكهرباء والريّ والحفاظ على الموارد المائية وغيرها، وفي هذا السياق من الخطأ الجسيم الافتراض بأن زيادة النمو الاقتصادي وتلقائيته يعنيان توفر متطلبات التنمية المستدامة، فمعالجات المشكلات الإنمائية الرئيسية كالبطالة والفقر لا يجوز تركها للبحث فقط في ضرورات زيادة النمو الاقتصادي وتوسيع النشاط الاستثماري للقطاع الخاص، ولذلك أيضاً، لا ينبغي الافتراض أن الاندماج في السوق الرأسمالية العالمية سيساعد على نحو آلي في تسريع التنمية الاجتماعية، من كل ذلك يجب أن تنطلق الدولة في تحديد المقومات الداخلية التي يجب أن تتوفر للتنمية المستدامة، والتي يجب العمل على تحقيقها، والتي يمكن تلخيصها في الأبعاد الأساسية التالية:
1ـ توفير تراكم عالي المستوى من الرأسمال البشري الفعال ذي الكفاءة العالية والمهارات المتنوعة.
2ـ تراجع مستويات الكسب الريعي وممارساته، أي الكسب غير المتأتي عن عمل منتج (مثل المكاسب الناتجة من الأرباح الاحتكارية أو الارتفاع في أسعار العقارات أو العمولات المتأتية عن التمتع بالنفوذ).
3ـ تحقيق درجات عالية من الكفاءة في الإدارة الحكومية في جميع المجالات.
4 سيادة القانون وتساوي جميع المواطنين أمام القانون وعدالة القضاء وناجزية التقاضي وسرعة التنفيذ للأحكام القضائية.
5ـ غلبة قيم الادخار والاستثمار على قيم الاستهلاك، ولا سيما الاستهلاك التفاخري، ويرتبط ذلك بغلبة المؤسسات غير الريعية ورواج الكسب المشروع.
أعتقد أن طاقة الاقتصاد السوري على النمو العالي الوتيرة وعلى استدامة هذا النمو، تعتمد بصورة حاسمة على تمكن تلك العوامل الخمسة من السيطرة على نمط التطوير الاجتماعي والاقتصادي ورسوخها في النسيج المؤسسي للبلاد، لا بد إذاً، من إعادة النظر في استراتيجية التنمية في البلاد، بحيث تقيم الأمور وتوضع في نصاب يأخذ في الحسبان المتغيرات والمستجدات المحلية والإقليمية والعالمية، وتعمل على استعادة دور الادخار الوطني والقوى العاملة المقيمة في الوطن في زيادة التنمية ودفع عجلتها، وإصلاح الأطر القانونية والمؤسسية التي تحكم النشاط الاقتصادي وإصلاح السوق الوطنية كي تصبح سوقاً تنافسية تتكافأ فرص النفاذ إليها لجمع المواطنين، والتأسيس الدقيق لدور الدولة في النشاط الاقتصادي، والعلاقات الصحيحة بين السلطة التنفيذية وأجهزتها من جهة وقطاعات الاقتصاد كافة، العامة والخاصة، وذلك من خلال تمتين الضبط والتنظيم وتنفيذ سياسات فعالة ومؤثرة في المجالات الآتية:
ـ الأطر القانونية والمؤسسية التي تحمي حرية التنافس في أسواق السلع والخدمات الداخلية والخارجية..
ـ السياسات الاقتصادية الكلية التي تحمي الاستقرار الاقتصادي، ويضمن ذلك ضبط مستوى الأسعار العام، وضبط العجز في الميزانية، وفي ميزان المدفوعات.
ـ تقوية قطاع التصدير ورفع القدرة التنافسية للإنتاج الوطني.
ـ الاستثمار الكثيف في الثروة البشرية من خلال الارتقاء بنوعية التربية والتعليم، والاستثمار أيضاً في البحث والتطوير في العلوم والتقانة، وفن الإدارة ودراسات الإنتاجية ومقومات القدرة التنافسية.
ـ التدخل لتشجيع مجالات صناعية وإنتاجية معينة لتحقيق أهداف ملموسة.
أما ما يتعلق بالمقومات الإقليمية والدولية للتنمية، فقد كان هناك اندفاع في البلاد ليس قائماً على الفهم السليم لطبيعة ظاهرة العولمة. كانت سورية تقوم بالانفتاح على الاستثمار الأجنبي والعربي والعمل على اجتذابه، بيد أن سياسة الانفتاح هذه كانت مبنية على نظرة ضيقة وناقصة للعوامل التي تتحكم في تحرك الرساميل، ولاسيما الاستثمار المباشر. إن واقع الأمر كان هو التالي:
النمط الأول: هو الاستثمار الأجنبي الساعي إلى استغلال الثروات الطبيعية في الاقتصاد والمستقبل للرأسمال، مثل الاستثمار في مجال استخراج النفط، وهذا هو النمط الكلاسيكي.
النمط الثاني: هو الاستثمار الذي يسعى إلى الاستفادة من ظروف تقلل من كلفة الإنتاج كوجود قوة عاملة رخيصة، ولكن هذا الأمر ليس كافياً حتى يتحرك الاستثمار الأجنبي المباشر نحو اقتصاد ما. وهناك شروط أخرى، مثل أن يكون الاقتصاد المستقبل كبيراً واسع السوق حتى يمكن للمستثمر أن يطمئن إلى تسويق الحد الأدنى المربح من إنتاجه، او أن يكون الإنتاج فيه قاعدة للانطلاق إلى السوق الإقليمية أو السوق الدولية الأوسع.
النمط الثالث من الاستثمار: وهو الذي لا تجذبه إلا البلدان المتقدمة. وهو الذي يحتاج إلى بيئة إنتاجية تتوفر فيها عوامل إنتاج ذات اختصاص وإنتاجية عالية، فهل تعد سورية دولة جاذبة لهذا النوع من الاستثمار؟ الجواب بالسلب، فما هو الحل؟ إن أي فكر اقتصادي يجب أن يكون معبراً عن المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع. وفي هذا السياق، يصبح من المهم جداً في ظل الأزمة السورية التي لم تنته بعد، أن يجري الاستعداد بصورة جيدة للمستقبل مع الاستفادة القصوى من التجربة الاقتصادية السابقة التي فشلت في إحداث التنمية المستدامة، سواء الليبرالية فيها، أو المبنية على التخطيط والمركزية. من هنا تبرز صورة اتباع سياسة اقتصادية تأخذ بالحسبان متطلبات المرحلة التي تعيشها البلاد ومستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي. وباختصار، وانطلاقاً من ذلك، يجب أخذ ما هو إيجابي من الليبرالية، بمعنى إعادة الاعتبار للسوق، وللمنافسة، وفسح المجال أمام القطاع الخاص الإنتاجي بالدرجة الأولى، مع تأمين المستلزمات الداخلية التي تطرقنا إليها لتطوره. وأخذ ما هو إيجابي من سياسة التخطيط الموجه، فيما يتعلق برسم الاستراتيجيات العامة للتطور الاقتصادي، ووضع آليات تحول دول توحش السوق، عبر التدخل من قبل الدولة عندما يجب ذلك، لأجل الحؤول دون انفلات السوق من عقاله، مع الحفاظ على قطاع الدولة، وخصوصاً في المجالات المفتاحية التي يتعلق بها استقلال البلاد، مع تحسين ظروف عمله، وجعلها ملائمة، وعدم وضع العراقيل أمامه، وإعطائه استقلالية، يستطيع من خلالها التخلص من البيرواطية، أو إضعافها بصورة كبيرة على أقل تقدير، والدخول في منافسة مع القطاع الخاص. كما أنه على السياسة الاقتصادية اللاحقة، أن تأخذ بالحسبان الجانب التخصصي في الاقتصاد، أي أن يجري العمل على تطوير تلك الصناعات التي يمكن لسورية أن تكون منافساً جدياً على الصعيدين الإقليمي والعالمي، مثل الصناعات الغذائية، والنسيجية، وصناعات الزيوت والصناعات البتروكيميائية، ويجب أن يؤخذ بالحسبان أيضاً، مسألة تكوين نظام اقتصادي إقليمي (أو على الأقل بين عدة بلدان)، في التعاون وفي التكامل نحو منطقة تجارة حرة وفعالة، وفتح الأسواق بينها. إن هذا الاندماج الاقتصادي هو أمر أكثر يسراً وأقل كلفة من إعادة تكوين الهياكل الإنتاجية التي يستتبعها إزالة الحواجز التجارية في الإطارين الأوربي والعالمي. بل إن للتكتل في الإطار الإقليمي مزية كبرى للتخفيف من تكاليف الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وذلك لأن الانضمام إلى هذه المنظمة يترتب عليه استحقاقات شديدة الوطأة لجهة إزالة الحواجز مع الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة دون تمييز. ولكن المادة 24 من اتفاقية (الغات) تعفي الدول الأعضاء في منظمة جمركية واحدة من تلك الاستحقاقات إلى حد بعيد.
بالطبع هناك عقبات تحول دون ذلك، أهمها اختلاف النظم الاقتصادية في هذه الدول. إلا أن الحصول على حصة ما من تقسيم العمل الدولي في ظل العولمة يقتضي النضال من أجل تحقيق هذه المهمة التي تتحول عالمياً إلى نزعة من الصعب بمكان إيقافها.