وكانت تحترق..!
انساب صوتها الطفولي الناعم مع صفير الريح في هيكل المدفأة البارد فزاد من برودة الغرفة، وجعل أنفاس الثلج المترامي حول البيت الصغير، تتسلل إلى قلبه فيزداد شعوراً باليأس والعجز عن فعل أي شيء لرد البرد الذي داهم البلدة بعاصفة ثلجية.. قال في نفسه: كم كنت أبله حينما صدقت الذين وعدوا بتوزيع المازوت! كم كنت أحمق حينما تراخيت عن جمع ما يتيسر من الحطب والكرتون والبلاستيك وغيره طيلة الصيف؟ الآن أدرك مدى عمق فلسفة النمل الذي لا يثق إلاّ بنفسه، ولا يعتمد إلاّ على قدراته، لكن ما الفائدة من لوم نفسي الآن وما فائدة هذه النتائج التي لا تغني ولا تسمن في هذا اليوم البارد المثلج.
نظر إلى الطفلة المتكورة تحت اللحاف فأحس بجدران الغرفة تطبق على جسدها الصغير، وتحطم حلمها بقليل من الدفء يفتح لها في ضيق المكان مساحات واسعة لميدان طفولتها.. ورأى نفسه الشاهد الأوحد على جريمة لم يحسب حسابها يوم كان الصيف مفتوح الأبواب، استرجع الأمثال التي كانت العجائز ترددها عن القرش الأبيض واليوم الأسود، و الأيام التي كان روث الماشية يحوّل إلى قطع وقود تخبئ بعد تجفيفها لمثل هذا اليوم.. ثم التفت لنفسه ..ويلاه .. ماذا أختلف عن الصرصور الذي أمضى صيفه منتظراً الوعود..؟! ثم لعن الحضارة التي جعلت الدفء مرتبط بالمازوت، والدول التي جعلت المازوت مرتبطاً بمزاجيات وأطماع ومصالح.. ثم ألح على نفسه ما الحل، مع البرد مع جبرية الطبيعة التي لا تميز بين الكبير والصغير ولا تتغير بالأماني والأحلام.. لبس ما تبقى من معطفه الذي طالما تندر به الأصدقاء، معطف (غوغول)، وفتح باب الغرفة المطلة على فسحة صغير تقود إلى الشارع مستقبلاً بسواد قلبه شروق اللون الأبيض الذي طالما سحر بجماله وتفاءل بحضوره، فرآه بحراً من الإسفلت البارد مشى نحو البقاليات القريبة باحثاً بلا أمل عن علب كرتون أو ورق مهمل أو قطع بلاستيك أو أي شيء يشتعل فلم يجد شيئاً .. يبدو أنه تأخر كثيراً، فالناس منذ اليوم الذي سمعت بقرب حلول العاصفة صادرت كل ما يمكن أن يشتعل على جانبي الطرقات وفي المزابل ..وبقايا تقليم البساتين، فيما ظل هو يعتقد حتى آخر لحظة أن شركة المحروقات ستوزع المازوت.
وماذا عنه لماذا لا يجلب ما يمكن جلبه من الحطب ليعم الدفء في الغرفة وليتسنى له صنع الشاي لابنته وتقديم سندويشة لبنة لها؟ مشى نحو الباب، مد يده ليفتحه .. لكنه سرعان ما تذكر يوم مضى مع التلاميذ الصغار لغرس هذه الحديقة في عيد الشجرة، تذكر نفسه وهو يعطي درس العلوم لتلاميذ الصف السادس (الشجرة ثروة وطنية واقتصادية هامة.. يجب المحافظة عليها) .. حديقة الأطفال هل يعقل هذا ؟! .. وقف حائراً .. عاد إلى وسط الغرفة .. الصوت العذب الصغير رن تحت اللحاف (بابا أنا بردانه وجائعة..) تلفت في أرجائها الضيقة لعله يجد حلاً ما .. رست عيناه عند مكتبته المحبوبة التي تتصدر الجدار.. نظر إلى كتب سميكة كان يعتز باقتنائها..ويحافظ عليها طيلة سنين حياته كأنها فلذات كبده، هي الثروة الوحيدة التي استطاع أن يجمعها طيلة سنوات حياته ..جال بنظره فيها .. كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، كليلة ودمنة، رأس المال، الموسوعة العربية، ذاكرة الجسد، مذكرات لينين. وعلى رفوف هذه المكتبة لاح له خيال حديقة الأطفال المهشمة وأشجارها تولول من الفزع، شعر بالمرارة حاصره الأسى.. لن أكون شريكاً في ذلك تصاعد صوت التلاميذ، رددوا معي: الشجرة ثروة وطنية واقتصادية..