سورية في دمشق
هناك من يقول: الأزمة تجلب الحزن والبطالة والفقر والتشرد.. وآخر يرى أن الأزمة التي تفرّق الناس وتشتت أحلامهم وآمالهم، تعمل من جهة ثانية على تجميع الكثيرين من القادمين من المدن والقرى، التي لوثها الإرهاب بقاذوراته وسمومه في منطقة واحدة. وينطبق هذا الواقع الذي نعيش أيامه وسنواته على العاصمة دمشق.. وأنت تسير في شوارعها المزينة بأعلام الوطن.. وجدرانها بصور الشهداء والنعوات المتعددة الأسباب لمتوفين ومتوفيات، يمكنك رؤية مئات وألوف الوجوه تتقابل وتتلامح في شوارعها وفي الدوائر الحكومية والمؤسسات والمدارس والمستشفيات، وعيادات الأطباء ومراكز توزيع الإعانات الرسمية وفي الكنائس والجمعيات الأهلية والمساجد، وفي المقاهي والمطاعم والفنادق، وفي حافلات النقل الداخلية ومن الشحاذين كباراً وأطفالاً… نشاهد كل هذا الجمع في دمشق كلها من بابها إلى محرابها.. بعضهم يسير ساهياً يحنون رؤوسهم كمن يطلب النجدة. وآخرون يتلون حكايات بأصوات مسموعة.. وتميل أعناقهم إلى اليمين أو اليسار.. وتعبث أيديهم بإشارات نحو الأعلى والأسفل، مثل فقاعاتِ زمهرير تتساقط كحبَّات البَرَد على رؤوسهم.
ضجيج الملايين وأسئلتهم ولوائح همومهم وبحثهم عن الأفضل في انتقاء المأوى الأجمل، والتأكد في مقدمة تساؤلاتهم من وجود الكهرباء والماء والقرب من قلب العاصمة ومن المدارس، وذلك لتوفير الوقت وعدم هدر الزمن بعد أن خسر ملايين المواطنين نقودهم وبيوتهم وأعمالهم ومحالهم التجارية وأرضهم الزراعية و.. و.. و.. ومن الذين قدّموا أبناءهم ورجالهم وأطفالهم قرباناً لسورية في مناطق القتال الساخنة وبؤر التوتر، حيث يوجد المسلحون المرتزقة أصحاب الأفكار المظلمة مثل سراويلهم السوداء.
ورغم المتاعب في السير على الأقدام وعدم توفر حافلات النقل من قلب المدينة إلى أطرافها وبالعكس، إلاَّ أن لذلك فوائد جمّة. فالمشي ساعة أو ساعتين في معظم الأيام، خاصة يوم الخميس باعتباره يوماً للحشر، فقد تحققت فوائد كثيرة أثارت نقمة الحاسدين وزوبعة من الشماتة، من الذين لم يقدروا أن يضاهوا هؤلاء الرياضيين الذين نفذوا دروسهم دون أن ينتظروا صدور القوانين الملزمة وأن يجاروهم ولو مرة واحدة.
وبرهنت الأزمة السورية أن أحداً مهما كان قوياً لن يزعزع مكوّنات المجتمع السوري الذي ظهرت على وجوه أبنائه آثار ندوب وحروق ونظرات العيون المتأسية على ما جرى منذ عام 2011.
الواقع الذي نستظلّ به آملين أن يتغير ويتبدل نحو الأفضل، هو عبارة عن أحلام كابوسية تحصد كل جميل في حياتنا، وتُبْقي الأسى يلمع والجرح ينزف والدماء تتجمّد في عيون الأطفال وعلى أثداء أمهاتهم التي جفَّت ونضب الحليب منها.
إن أوساخ العالم حملتها رياح النفط والدولار..عبرت حدودنا من بوابات الجيران (الكرام)، وعبثت بجمال سورية وطبيعتها التي احتضنت الشعب السوري آلاف السنين..
وفي مساء هذا اليوم من نهاية كانون الثاني، وقفت أمام الباب السابع لدمشق.. قرأت على أحجاره المنحوتة تواريخ الانتصارات قبل الميلاد وبعده.. قلتُ في نفسي ودمعتان تسيلان على خدين صبورين وخجولين: (سأسير مشياً من المرجة إلى البيت في سوق مدحت باشا، فأنا لم أزر هذه السوق منذ عقدين).. تصورت أن المحال المصفوفة على نسق واحد بأبوابها الخشبية الموحدة، أنني أسير في غربة.. وتصورت أنها خالية من البضاعة ومن الزبن.. لكن الأمور كانت عكس ذلك تماماً. وتذكرت قبل أربعة عقود ونيّف، رائحة بهارات البزورية التي بدأت أتنشقها من جديد.. تلك الرائحة التي كانت رسالة أمل نفضت عنّي هموماً تراكمتْ وتماسكتْ أكثر.. وانتهى اليوم وتمنيت ألاَّ ينتهي..! وظلت الصور الملونة الزاهية تتجمع في فسحة خالية من الذكريات السوداء.. وهذا ما أنعشني وضاعف فرحي عشر مرات..!