النهج الاقتصادي والخصوصية السورية

لكل بلد طبيعة وبنى مختلفة تتمايز عن البلدان الأخرى ولكل بلد درجة من درجات النمو والتطور والتكوين البشري المعرفي والعقلي تتفوق على بلدان أخرى أو تقل عنها، فقلما تجد بلدين متطابقين بالبنى ودرجات النمو والتطور ويمكن تطبيق النهج ذاته بكل دقائقه عليهما، فإن كان لهما معدل النمو الاقتصادي والسكاني نفسه، فقد يختلفان بالتنوع الديمغرافي والإثني وبالهيكلية الاقتصادية أو بالتراكم الثقافي أو بالعمق التاريخي والحضاري وووو. وقد يختلفان بحجم البطالة وبحجم الفقر وبحجم الرساميل المحلية وإن تشابها فقد يختلفان بالموقع الجغرافي وبالتالي بالنظرة الدولية البراغماتية على كل منهما وبعلاقاتهما مع البلدان الأخرى ومن هنا تأتي كلمة أو مفهوم الخصوصية، فهي مصطلح مهم وفهمه أهم لمعرفة دقائق وتفاصيل البنى المختلفة للبلد اقتصادياً، اجتماعياً، ثقافياً، إثنياً أو قومياً أو ديمغرافياً، ولننطلق من هذه المعرفة لوضع خطط وبرامج مرحلية ومتوسطة وآنية لمزيد من النمو والتنمية والتطوير والتحديث، ومن هنا فإن الأمور قلما تكون متطابقة وإنما قد يكون هناك تشابهات نسبية في بعض البنى أو المعدلات ولكن الاختلافات تفرض اختلافاً بالسياسات والخطط، وهنا كانت نقطة الخلاف أو الصراع السابق للأزمة المركبة التي كان أحد منطلقاتها الاقتصادية الاجتماعية محاولة فرض سياسات اقتصادية خارج إطار الواقع وأبعد ما تكون عن تطور بنيوي صحيح، إذ إنها تحابي القلة على حساب الأكثرية وتطيح بأكثر المنجزات المتكرسة نتيجة نهج اقتصادي سابق هدفه العدالة الاجتماعية وتكريس قوة الدولة وانصهار النسيج السوري تحت سلطة القانون والمؤسسات الضابطة والقائدة للتحديثات المنسجمة مع ما يتطلبه الداخل وما يساعدنا في المحيط الاقليمي والدولي. وقد فُرضت تلك السياسات بدلاً من الانطلاق الصحيح للإحاطة بالفساد ونشر سيادة القانون عبر تعيينات صحيحة وعبر إصلاح القطاع العام الذي كان قائداً للاقتصاد وحامياً للبلد وللمواطن في ظروف صعبة وحصارات خانقة، ولكن تبنّي أسلوب الصدمة للوصول إلى غاياته وإرضاء من تبناه ارتأى البعض أن هذا القطاع وقوته عبء يعيق تنفيذ مخططاته الهادفة إلى إضعاف دور الدولة وتقوية نفوذ أشخاص وجدوا من خلال النهب وسلب المزايا والمكاسب، ومن خلال تعميم الفساد ومأسسته، فكان القرار بقتل هذا القطاع بدلاً من إصلاحه عبر قوانين وسياسات وتعيينات وجعل الموضوع تنافسياً مع من يريد الولوج بمجالات اقتصادية واجتماعية مشابهة، ولكن كانت طريقة القتل أهم وأيسر لبرامجهم التي لا شبيه لها في أي نهج اقتصادي اقتصادي هذه الليبرالية التي تغنوا بها وأهم أسسها المنافسة والتشاركية ولكنهم كانوا عاجزين عن المنافسة مع قطاع كهذا ومؤسسات متجذرة، فلا بد لهم من إعاقة الإصلاح ولا بد لهم من سلب المكاسب وإهدائها لبعض المحسوبين وشركاء الصدمة الاقتصادية التي صدمت البلد وهشمت بُناه. وترافقت هذه السياسات ضد القطاع العام بسياسات شبيهة ضد الزراعة التي حققت الأمن الاقتصادي، وقدمت تبريرات غير واقعية سلبت منا هذا الأمن، فتراجعت محاصيل استراتيجية بذريعة الجفاف ورفع أسعار المستلزمات ومحاولة تخلي الدولة عن شراء المحاصيل أو عدم رفع سعرها مثلما حصل مع القمح والقطن والشوندر وغيرها، وجرى تحرير التجارة وقتل المؤسسات العامة لإعطاء المزايا لمجموعة من المحتكرين ولو على حساب الشعب ولو أدى هذا التحرير إلى بطالة الآلاف وإغلاق الكثير من المهن والحرف، وجرى كذلك التغاضي عن التهرب الضريبي والهدر والفساد الذي قدر بألف مليار ليرة سورية في عز قوة الليرة، واستمرالتنظير بأرقام مضللة كاذبة من حيث تضخيمها ومن حيث بنيتها كرقم النمو الذي هو وسيلة وليس غاية. سعوا للتضخيم بالاعتماد على أرقام التجارة والسياحة وقتل الطاقات الإنتاجية، وكذلك لم يراعوا التنمية المستقلة المتوازنة بين المناطق والمدن، مما أفشل سياسة الاستقرار في الأرياف والمدن المنسية والشرقية علماً أنه في وقت ما أصبح الكثير من سكان المدن يسعون للاستقرار  في الريف تماشياً مع تلاشي الاختلافات التنموية ويسر الحياة في الأرياف. وفوق ذلك كله جرى قتل روح الإبداع والمنافسة ومُنع الاستثمار الصحيح للكفاءات، وعُمِد إلى تهجير الأميز وضرب المؤسسات التعليمية والصحية بتفريغها من النوع على حساب الكم، ورفعت العلاج والتعليم بعد أن كانت بمتناول الجميع. للأسف هذه الصدمة الأقرب للرؤية الأمريكية الهادفة لخلق أشخاص أقوى من الدول وعلى حساب الدول عبر إضعاف دور الدولة أمام هؤلاء بقتل القطاع العام ورفع الضرائب والرسوم ومنع الدولة من دعم السلع والمنتجات لتحقيق العدالة وتحرير التجارة ولو أدت لضرب المنتج الوطني ولو عن طريق الإغراق….كل هذا لضرب النهج الحقيقي البناء الذي كان يمكن بعدد من الاصلاحات والسياسات أن يزيد المنعة والعدالة وصلابة النسيج ويزيد من رفاهية الوطن والمواطن وهنا كانت الأزمة الكارثة بصدمة دمرت الكثير مما تحقق سابقاً ولم ترحم مؤسسات القطاع العام والمؤسسات التعليمية والصحية من الهدم والتخريب، أزمة أعادت الكثير من المعاناة وخسّرتنا الكثير من الإنجازات واغتنى منها الكثير من رؤوس الفساد، وللأسف لم يعترف من أوصلنا إليها ولم تعل أصوات تطالب بنهج اقتصادي يراعي خصوصيتنا ويعيد قوة الدولة ومركزية دورها، وكأن هناك توافقاً ضمنياً على عدم النقاش في هذا الموضوع.. وعلى الرغم من أن الإدارة الاقتصادية بظروف الأزمة استثنائية ولها خلفيات قد تتخطى الهدف الاقتصادي ولكن ما وجد من ثغرات وخاصة في السياسة النقدية والمالية أهلك الليرة ورفع الأسعار مع تهميش دور الدولة ومنها وزارة حماية المستهلك، من باب التعصب لمقولة (السوق تنظم نفسها) أو من خلال قتل دور المؤسسات التدخلية، لفرض الأسعار والهروب من دور التسعير الإداري، كل ذلك إرضاء لمن صدمنا بسياساته وإجراءاته التي خلخلت البنيان والإنسان، وكل ذلك بأسلوب لم تكن لأي خصوصية بنيوية لبلدنا فيه، وهنا بيت القصيد فإن لم ننطلق مما وصلنا إليه، وإن لم نتفق على نهج جديد يخفف من الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة الخانقة التي أوصلت أغلب الشعب إلى خطوط الفقر وجعلت أكثر من نصف الشعب عاطلاً عن العمل، وأعاقت مئات الآلاف وهجرت الملايين فإن القادم صعب ومستحيل، لأن الموضوع الاجتماعي والتخفيف من تبعاته أهم شيء ولا يمكن التخفيف منها من دون تبني نهج اقتصادي لدولة مؤسسات وقانون، تكون مؤسسات الدولة الملبية للعمق الاجتماعي، صاحبة القيادة والمبادرة وتوزيع المهام ضمن خطط مرحلية واستراتيجية تسخر كل إمكانات القطاعين العام والخاص السوريين المقيمين والمغتربين في إعادة البناء والإعمار ومواجهة نتائج الإعصار..

العدد 1140 - 22/01/2025