غياب القطاع الحرفي عن خطط المعنيين.. إلى متى؟!
يعدّ القطاع الحرفي أحد القطاعات الاقتصادية الهامة، ورديفاً لكثير من القطاعات الأخرى، لأنه مكمل أساسي لجزء كبير من الصناعات، وعلاوة على البعد التاريخي والثقافي، فإن للصناعات الحرفية أهمية في التنمية الاقتصادية الشاملة، إذ تعد إحدى القطاعات الكبيرة في استقطاب اليد العاملة لعدم حاجة المشاريع إلى رأسمال كبير ولا إلى لمواد أولية مرتفعة التكاليف مقارنة بالعديد من الصناعات الأخرى، فهي تدرج ضمن إطار الصناعات الصغيرة والمتناهية في الصغر، كما تتسم بالمرونة في الإنتاج والقدرة على تقديم منتجات وفق احتياجات المستهلك وطلبه، بالاعتماد على مواد محلية بالمجمل، وبالتالي فهو يخلق قيمة مضافاة لمنتجاته، وهو ما يسهم في تأمين احتياجات الأسواق المحلية بأسعار قليلة نسبياً، مما يؤدي إلى إقبال الناس على شراء المنتجات الحرفية، ويشكل مصدراً للتداول السريع للأموال وتوفير السيولة في الأسواق المحلية، أيضاً للعمل الحرفي دور كبير في تقليص معدلات البطالة، إذ يعمل في تلك المهن والصناعات عدد كبير من العمال والفنيين من أصحاب الخبرة.
وفي سورية يتميز هذا القطاع بالغنى والتنوع، فهو يضم أكثر من 290 حرفة تتوزع في كل المحافظات، ويصل عدد المشتغلين في الحرف على اختلافها نحو 800 ألف حرفي، كما وصلت مساهمة القطاع الحرفي في الاقتصاد قبل الأزمة إلى حدود 60% من اقتصاد الظل، الذي يشكل نحو 40% من النشاط الاقتصادي العام، كما بلغت نسبة الإنتاج الصناعي للحرفيين في سورية 65% من إجمالي إنتاج القطاع الصناعي الخاص، بقيمة 316 مليار ل.س وفق مسح القطاع الصناعي الخاص عن بيانات عام 2010.
لكن هذا القطاع الحيوي والهام يعاني منذ سنوات نتيجة سياسات التحرير الاقتصادي التي أضرت به، ودفعت عدداً كبيراً من المشتغلين فيه إلى إغلاق محالهم وورشهم والتوجه نحو مهن وأعمال أخرى، وذلك بعد فتح الأسواق لمنتجات صناعية مستوردة، فامتلأت الأسواق بسلع مقلدة لمنتجاتنا وبأسعار أرخص، إضافة إلى تحديدات كثيرة، منها الإدارية والتشريعية، وصعوبة الحصول على ترخيص مزاولة المهنة وارتفاع الرسوم والضرائب، ومن ناحية أخرى تعاني هذه الحرف من النمط التقليدي في الإنتاج وغياب الأهداف والمنهجية الواضحة، وأتت الأزمة وقضت على الرمق الأخير من هذا القطاع الهام، فأغلق جزء كبير من المنشآت الحرفية التي تتركز بالمجمل في الأرياف، مما دفع نسبة كبيرة من المشتغلين فيها إلى الهجرة بحثاً عن الأمن وسعياً وراء لقمة العيش.
لكن، وفي خضم الأوضاع الكارثية التي يعانيها الحرفيون اليوم، المطلوب دعم الحرفيين وأصحاب المهن والصناعات الحرفية التي تميزت بها سورية، والاهتمام بالحرف التقليدية والتعامل معها كتراث يجب المحافظة عليها، وكصناعة توفر وظائف من خلال التشغيل والتسويق، والعمل على جعلها مصدر دخل لكثير من الأسر السورية، والتأكيد على ضرورة جدولة الديون والقروض الممنوحة للحرفيين سابقاً أسوة بباقي القطاعات، والسعي لتوفير القروض بفوائد مخفضة وآجال طويلة لتمويل المشاريع الحرفية، وتشجيع الحرفيين على الدخول إلى السوق من جديد.
إضافة إلى السعي للترويج للمنتجات الحرفية من خلال المعارض، وتشجيع الحرفيين على المشاركة فيها، وهو ما يتطلب دعماً حقيقياً لهذا القطاع الحيوي ليكون رافداً للاقتصاد السوري، وطريقة نبدأ بها إعادة إعمار اقتصادنا الذي تضرر في العقد الماضي نتيجة السياسات الاقتصادية الانفتاحية، والتي تلتها الأزمة، فقضت على الرمق الأخير منه، وهنا تبرز الحاجة لمراجعة كل التشريعات والأنظمة المتعلقة بتنظيم هذا القطاع بهدف إيجاد تشريع واحد ناظم له، وجهة واحدة تشرف عليه، لأنَّ كثرة الجهات المشرفة على هذه الصناعات كانت عاملاً سلبياً في زيادة مساهمتها في الناتج المحلي، مع إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية مع الدول الأخرى لوضع ضوابط للاستيراد والتصدير، بغية الحفاظ على المنشآت الحرفية والصناعية واستمرار إنتاجها.
إدماج الحرف اليدوية والتراثية بمناهج التعليم من التعليم الأساسي إلى كل المراحل، وإنشاء مراكز تدريب وتأهيل تجمع بين مكونات التصميم والإنتاج، وتعزيز ثقافة الاهتمام بمراحل مابعد الانتاج من تغليف وتعليب لتقديم المنتج بشكل جيد وجاذب للمستهلكين.
إن كل ذلك يحتاج إلى تفعيل التواصل المباشر مع الحرفيين لمعرفة العقبات التي تواجههم، والعمل على تذليلها خشية من اندثار وزوال الكثير من تلك الصناعات التي تناقلتها أجيال عديدة، ونحن اليوم أمام فرصة كبيرة لنخرج صناعاتنا الحرفية التقليدية من تقاعدها المبكر ووضعها في ظروف منافسة تليق بالمنتج الوطني.
وفي الختام ينتظر الحرفيون من حكومتهم اليوم -كغيرهم من القطاعات- خطوات حقيقية لمعالجة مشاكلهم.. فهل سيجدون آذاناً مصغية لدى المعنيين..؟!