أدب الأطفال ونصيحة إينشتاين

تصاعدت حدة الجدل في الآونة الأخيرة حول قضية قديمة متجددة، يبدو أن هنالك من هو مصرٌّ على تصنيفها حلقةً إضافية في سلسلة الأزمات التي تعصف بواقع ثقافتنا العربية حتى آل إلى ما آل إليه.

من يكتب لأطفالنا؟ أين كتاب أدب الطفل؟ لماذا ظل أدب الطفل عاجزاً؟

عناوين مقالات وتحقيقات ومحاور لقاءات وندوات، ظاهرها نقاش يبحث عن أجوبة وحلول، وباطنها نقد وتنظير وتراشق للاتهامات والمسؤوليات لا يفضي في نهاية المطاف إلا لرسم صورة قاتمة تدعو للتشاؤم والإحباط.

أياً كان مدى سوء واقع أدبنا الطفلي ومهما تباينت وجهات النظر حول طبيعة وعمق المشاكل التي يعانيها فالحل بالتأكيد لا يكمن بالاستسلام المريح لليأس والتلذذ بجلد الذات، على طريقة أحد كبار المعنيين بهذا الشأن، الذي نفض يده من الموضوع عبر حسم القضية كلها بخلاصة مفادها أن مجتمعنا الثقافي عاجز عن إنجاب أدباء للطفل، مستدلا  على هذه النتيجة الخطيرة بعقد مقارنة غريبة ما بين مجتمعنا الثقافي ومجتمعات أخرى استطاعت ترسيخ أدب طفلي أنتج روائع عالمية، من حكايات أيسوب وحتى هاري بوتر.

زميل له كان أقل سوداوية، فعزا أصل المشكلة إلى أن الكتاب الشباب يُعرضون عن الكتابة للطفل لعدم وجود المردود المادي في هذا النوع من الأدب.

وزميل ثالث نحا منحىً مغايراً، باتهامه هؤلاء (الكتاب الشباب) باستسهال الكتابة للطفل، ملوِّحاً  بلائحة مواصفات خاصة جداً يشترط توافرها في من يفكر بولوج هذا الميدان .

فهل يصلح هذا النوع من الخطاب السلبي أساساً للانطلاق نحو توصيف وعلاج قضية لا ننفك نتحدث عن أهميتها وخصوصيتها؟

 هل يعقل أن المجتمع الثقافي الذي أنجب نزار قباني و زكريا تامر وسليمان العيسى، قد أصابه العقم فجأة حتى عجز عن إنجاب أدباء أطفال دون سائر مجتمعات المعمورة؟ ثم هل نحن مجمعون على أن هذه المجتمعات التي علينا الانبهار دوماً بإنجازاتها والتي أنشأت أطفالها على أدب طفلي راسخ قد أفرزت كباراً مثاليين أو حتى صالحين حتى نتخذها قدوة تحتذى؟

ما سرّ هذا الاتفاق على توجيه أصابع الاتهام إلى الكتاب الشباب، دونما أولئك الذين اصطلح على تسميتهم بالمكرَّسين؟ هل يمكن الحديث عن زمنٍ جميلٍ عاشه أدبنا الطفلي أيام كان هؤلاء شباباً على مبدأ (سقى الله أيام زمان)؟ وهل من الإنصاف تحميل الكتاب الشباب مسؤولية تردي الواقع الأدبي الطفلي عبر اتهامهم بالاستسهال تارة وبالسعي وراء المردود المادي تارة  أخرى؟ وكأن انصرافهم إلى كتابة الأنواع الأدبية الأخرى قد فتح عليهم أبواب النعيم ! قد يصح افتراض هذه المفاضلة في مجالات أخرى كالتمثيل مثلاً، ولكن طرحها في سياق الحديث عن   (حرفة الأدب) وخصوصاً في مجتمعنا العربي ينطوي على مفارقة بيّنة و إدانة ذاتية لكل قائل بها.

 هل من الحكمة أن نبدأ مسعانا الهادف إلى خلق بيئة إبداعية خصبة بتحذير الشريحة التي يفترض أنها الأقدر على التواصل والتفاعل مع عقل الطفل نظراً لقرب عهدها بمرحلة الطفولة من مغبة استسهال الكتابة للطفل، وبالحديث عن (شروط مسبقة لا بد من مراعاتها عند مخاطبة طفل اليوم)، كالتلازم بين أدب الطفل الحديث و التخصص العلمي الأكاديمي المرتبط به (تربية – علم نفس الطفل…إلخ)، أم علينا التركيز على عوامل أخرى تسهم في توسيع دائرة البحث أفقياً عن المواهب الخام الكامنة؟ فلنتحدث مثلا عن بساطة الأسلوب وسلاسته.. وضوح الفكرة وعفويتها، لنشجع الموهوب على خوض التجربة ولنحرض المتردد على الإقدام، ولنترك الحكم على المنتج الأدبي لصاحب العلاقة (الطفل) ليمنحه مكانته التي يستحق تبعاً لمدى قدرته على ملامسة اهتماماته وملاءمته لذائقته ونجاحه في إشباع خياله، ولنا في قصة نجاح سلسلة هاري بوتر الشهيرة، وسيرة حياة مؤلفتها ج. ك. رولنغ عبرة ومثلاً؟

 وهنا لا بد لنا من التوقف عند دور المعني الأول بشأن أدبنا الطفلي (وزارة الثقافة – مديرية ثقافة الطفل) التي بذلت في السنوات الأخيرة جهوداً جدّية مبشرّة في هذا الإطار من خلال تنظيم مسابقات دورية لأدب الأطفال، هذه الجهود التي لم تفلح في تحريك الركود المزمن للواقع الأدبي الطفلي وكسر حالة الجمود التي يعانيها، لأنها كثيراً ما وقعت ضحية عقليات بيروقراطية أجهضتها وأفرغتها من مضمونها بعجزها عن تقديم أو تبنّي أفكار إبداعية خلاقة كفيلة بتطوير التجربة الواعدة والبناء عليها وجني ثمارها. فهل من المعقول أن تبقى الأعمال الفائزة بهذه المسابقات حبيسة الأدراج لسنوات بدلا  من الحرص على الإسراع ما أمكن في نشرها على أوسع مدى والتعريف بأصحابها – وخصوصاً الأطفال منهم – وتبنّيهم، وصولا  إلى تكريسهم كتابَ أدب أطفال يرفدون المجتمع الثقافي بنتاج موهبتهم التي أقرتها لجان تحكيم اختصاصية خبيرة؟

صحيح أنه لا يمكن استثناء أدب الطفل من مجمل واقعنا الثقافي الغني عن الشرح والتوصيف، ولكن بخطوات عملية بسيطة من هذا القبيل، بعيداً عن لغة التنظير والتيئيس وكيل الاتهامات سنكتشف أن القضية أبسط مما نتوهم، وأن حلها أهون مما نظن، وأن كاتب أدب الطفل ليس كائناً مهدداً بالانقراض. وربما نكتشف أيضاً أن خصوصية هذا النوع الأدبي من حيث ارتباطه الوثيق بالبعدين التربوي والأخلاقي لأجيال الغد يمكن أن تكون نعمة يرجى منها خيراً، عندما ننظر إليها بالعين ذاتها التي نظر بها ألبرت إينشتاين حين قال رداً على سؤال عن سرّ عبقريته:

كل ما في الأمر هو أنني فكرت كما يفكر الأطفال!

العدد 1140 - 22/01/2025