الاقتصاد السوري… ماذا بعد؟!
يستحيل تسليط الضوء على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سورية، دون الأخذ بالحسبان الأزمة المركبة التي عصفت بها، لابسبب الصلة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد والحرب فحسب، بل أيضاً بسبب ما أنتجته من تأثيرات مدمرة على قطاعات الإنتاج.. والرساميل.. والمصارف.. والاستثمارات.. والاستهلاك.. والادخار، أي بكلمة واحدة على جميع المؤشرات الاقتصادية، وخاصة في ظل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها على سورية. أما في الشق الاجتماعي، فكان أبرز التداعيات ارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة والهجرة الداخلية والخارجية، وما أدت إليه من معاناة شديدة مستمرة، أفقرت المواطنين السوريين.
في حالات مشابهة، وليست متطابقة، كانت الحكومات في الدول الأخرى تلجأ إلى ما عرف بـ (اقتصاد الحرب)، فاتخذت السياسات والتدابير التي تكفل استمرار بقاء هيكل الدولة المؤسساتي والقانوني والاقتصادي، مستندة إلى موازنات (تقشفية) تتركز على تأمين الحاجات الأساسية والضرورية لاستمرار المقاومة، وتلبية متطلبات الشعب المعيشية، وضمان استمرار قطاعات الإنتاج في المناطق الآمنة بتزويد السوق بالمنتجات، واستخدام احتياطات البلاد من الذهب والقطع الأجنبي بحذر شديد، بهدف المحافظة على سعر العملة المحلية، واستيراد المستلزمات الضرورية.. وخرق الحصار الاقتصادي الذي يترافق عادة مع الأعمال العسكرية في جميع الحروب والأعمال العسكرية.
أضرار القطاعين الرئيسيين
أدت الأوضاع السائدة إلى إلحاق اضرار وخسائر كبيرة بالقطاع الصناعي بشقيه الخاص والعام سواء بالشكل المادي المباشر أو بفوات الربح، وتشير آخر الأرقام المعلنة من وزارة الصناعة وغرف الصناعة أن إجمالي قيمة الأضرار والخسائر التي لحقت بالقطاع الصناعي السوري نتيجة التدمير والتخريب والسرقة بلغت حتى الآن نحو 630مليار ليرة سورية. كما بلغ عدد الشركات الخاصة المتضررة التي حصرت نحو 1379 منشأة، وبلغت قيمة الأضرار الإجمالية في القطاع الخاص نحو 300 مليار ليرة سورية. وقد بلغ عدد العمال الذين خسروا عملهم إثر توقف معامل القطاع الخاص الصناعي فقط 800 ألف عامل حسب وزارة الصناعة، منهم 200 ألف عامل مسجلين في التأمينات الاجتماعية، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن هذا العدد قد تجاوز المليونين.
أما بالنسبة للقطاع القطاع العام الصناعي فقد بلغت خسائره الإجمالية نحو 330 مليار ليرة سورية، منها نحو 127 مليار ليرة سورية أضرار مباشرة. وقد أدّت الأزمة إلى خروج 49 شركة ومعملاً ومحلجاً من الإنتاج، إضافة إلى 14 شركة ومحلجين كانت متوقفة قبل الأزمة، وذلك من أصل 116 شركة ومعملاً ومحلجاً تعود لثماني مؤسسات صناعية عامة تابعة لوزارة الصناعة. (1)
القطاع الزراعي من أكثر القطاعات تضرراً، لا بسبب تقلص المساحات المزروعة بنسبة تبلغ نحو 35% فقط، بل بسبب هجرة اليد العاملة الزراعية، وصعوبة تأمين مستلزمات الزراعة من بذار وسماد وعلف، أما الهم الأكبر فكان تأمين المازوت اللازم لعملية الري بعد زيادة أسعاره، وصعوبة وصول الإمدادات الحكومية إلى المناطق الزراعية في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد، وهذا ما تسبب في انخفاض كميات المحاصيل الاستراتيجية وبقية المحاصيل، وزاد في الأمر سوءاً صعوبةُ تسليم هذه المحاصيل إلى المؤسسات الحكومية، بعد سيطرة الإرهابيين على مناطق زراعية واسعة، ومنع المزارعين من التعامل مع الدوائر الزراعية الحكومية، فتراجعت كميات القمح المسلمة إلى الدولة في عام 2014 إلى أقل من نصف مليون طن، في حين تبلغ حاجة البلاد للاستهلاك الداخلي بحدود 3 ملايين طن، أما محصول القطن فشهد وضعاً كارثياً.. ولم تتسلم الدولة إلاّ نحو 35-40 ألف طن، في حين تبلغ احتياجات صناعاتنا المختلفة من مادة القطن بين 300 و 350 ألف طن سنوياً.
أضرار القطاع النفطي
لقد بلغ إجمالي النفط المنتج في سورية خلال العام 2014 والمسلم لمصفاة حمص3.4 ملايين برميل بمعدل إنتاج وسطي بلغ 9329 برميل/يوم، متراجعاً من 385 ألف برميل/يوم، وهذا ما قلّص من إيرادات الحكومة من جانب، وأدى إلى تخصيص جزء من احتياطي القطع الأجنبي بهدف استيراد حاجة البلاد من المشتقات النفطية من جانب آخر، إضافة إلى تضرر الآبار.. وخطوط النقل.. والمعدات.
الانعكاسات الاجتماعية
لقد فقدت العائلات السورية الفقيرة والمتوسطة في كثير من الأرياف والمدن ممتلكاتها، كما خسرت عملها في القطاع الخاص ومصادر رزقها المتنوعة، الزراعية منها والحرفية، مما أدى إلى ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل إلى نحو 42%، وهُجّرت آلاف العائلات قسراً إلى أماكن أكثر أمناً بغياب فرص عمل حقيقية، وارتفعت نسبة الفقر بين السوريين إلى أرقام قياسية، بعد إغلاق المصانع وتخريب المزارع، وفقدان الدخل، وارتفاع أسعار القطع الأجنبي الذي أدى إلى ارتفاعات جنونية لأسعار المواد الأساسية، الغذائية والطبية.. وتقلصت الأجور الحقيقية للعاملين في الدولة، أما من بقي عاملاً لدى القطاع الخاص، فقد وافق على تخفيض أجره، مما أدى في النهاية إلى ارتفاع عدد الفقراء- حسب اعتقادنا- إلى نحو 15 مليون مواطن.
الحكومات السورية والأزمة
الأزمة الاقتصادية التي تمر بها سورية، لا تعود لأسباب اقتصادية بحتة، وإن كان للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي اتبعتها الحكومات في العقد الماضي دوراً في استفحالها، فالمسألة هنا هي انعكاس الأزمة الوطنية التي تحولت إلى حرب تقودها التنظيمات الإرهابية و(الجهاديين) على الاقتصاد الوطني، وتَدخل أطراف خارجية في تحويل هذه الأزمة السياسية إلى حرب شرسة ضد الدولة السورية، أخذت طابعاً إرهابياً سعى إلى تدمير قطاعات الإنتاج والبنية التحتية، وساعد في تصعيد حالة الركود الحصار الجائر الذي فرضه التحالف الدولي الخليجي بزعامة الإمبريالية الأمريكية، والذي أدى إضافة إلى إزهاق أرواح المواطنين السوريين من مدنيين وعسكريين، إلى حالة ركود اقتصادي وتأزم اجتماعي لا تنفع معه وصفات اقتصادية إذا لم تترافق بحلول سياسية تؤسس لإعادة إنهاض الاقتصاد السوري وهياكله المنتجة. لذلك قلنا وما زلنا نقول: إن الحلول السياسية لأزمة البلاد، وإنهاء أزمة السوريين استناداً إلى توافقهم على التغيير السلمي باتجاه الديمقراطية.. والعلمانية.. والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تُعد الطريق الآمن.. والممر الوحيد لا من أجل مواجهة الإرهاب ووقف القتل والتدمير والتخريب فحسب، بل لإعادة إنهاض الاقتصاد السوري، وإعادة قطاعاته المنتجة إلى العمل، ومن ثم وضع الخطط الحكومية لإعادة إعمار ما خربته مفاعيل الأزمة العاصفة.
ومع تأخر الحلول السياسية التي تفتح الطريق أمام إعادة إنهاض الاقتصاد السوري، يبدو مما آلت إليه مفاعيل الأزمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي(حرق المنشآت الاقتصادية.. سرقة الآلات.. توقف المصانع والمعامل والورش.. تفجير البنية التحتية.. هجرة الصناعيين والمستثمرين ورجال الأعمال.. تعثر المصارف.. تراجع إيرادات الخزينة.. ارتفاع نسب الفقر والبطالة.. الخ) أن الحكومات المتعاقبة توقعت نهاية سريعة لما بات يعرف اليوم بـ(سنوات الجمر السورية)، وهذا القصور في الرؤية الحكومية لا يمكننا إرجاعه إلى أخطاء تكنيكية.. وظيفية، بل إلى عدم قراءة الأحداث السورية وفق المنظورين الداخلي والخارجي، واحتمال تعقد الأزمة أكثر فأكثر، وبالتالي استمرارها لمدة طويلة، من جهة، وإلى تقدير مبالغ فيه للإمكانات الذاتية في وضعها الراهن، وقدرتها على المقاومة والاستمرار من جهة ثانية. فهذه الحكومات لم تعطِ الاهتمام الكافي لمستلزمات الصمود طويل الأمد، بل العكس تماماً، ففي تصريحات المسؤولين الحكوميين كانت واضحة النبرة التفاؤلية بقرب النهاية، بل راح بعض المسؤولين يضع التصورات الخاصة بإعادة الإعمار، وضرورة البدء باستيراد الآليات اللازمة لبدء المشاريع الكبرى، في الوقت الذي يؤكد فيه مسؤول آخر تراجع الإيرادات الحكومية.. وعجز الحكومة عن الاستمرار في سياسات الدعم للفئات الفقيرة، ثم جاءت القرارات (غير الشعبية) بتعويم أسعار المازوت وزيادة أسعار الخبز والغاز لتثير في نفوس المواطنين ألف سؤال وسؤال، عن سوء المعالجات الحكومية لحالة الأزمة، وغياب الخلية المسؤولة عن تكييف الاقتصاد السوري وفق متطلبات الصمود طويل الأمد.
ما العمل؟
لقد تقدمنا على صفحات (النور) باقتراحات عدة منذ بداية الأزمة، وتقدّم غيرنا أيضاَ، وخاصة في لقاءات جمعية العلوم الاقتصادية مع المسؤولين الاقتصاديين والخبراء، لكن من صمّوا آذانهم واصلوا تجاهل هذه الاقتراحات في الوقت الذي كانت فيه مؤشرات اقتصادنا الوطني تواصل تراجعها، ومعاناة جماهير الشعب السوري تزداد شدة وقساوة.
في الوضع الراهن.. وبعد التصريحات الحكومية المقصودة.. أو غير المقصودة، والتي تؤشر إلى عجز الحكومة عن الاستمرار في الدعم الاجتماعي.. وتراجع الإيرادات العامة.. وفقدان السيطرة على سوق القطع.. وعدم جدية التوجه نحو إنهاض ومساعدة الصناعيين والحرفيين في المناطق الآمنة.
نرى ضرورة التركيز على الإجراءات التالية:
1 – العمل بجدية وإخلاص على دعم المبادرات السلمية في الداخل والخارج لحل الأزمة السورية عبر الحلول السياسية، فتوافق السوريين وحده هو الذي يفتح الطريق أمام المآسي التي أدمت السوريين وهدمت إنجازاتهم، وهذا ما يمهد الطريق أمام إنهاض الاقتصاد السوري.
2 – وقف جميع أنشطة الحكومة.. وموازناتها المخصصة للقطاعات غير المنتجة.. والريعية.. والتي يمكن تأجيلها.. والتي لاتتناسب مع الأوضاع التي تمر بها البلاد.
3 – تخصيص موازنات القطاعات غير المنتجة، والإيرادات العامة المتوقعة حصراً لتأمين المساعدات الضرورية للقطاعات المنتجة وخاصة الصناعة والزراعة، وسد احتياجات الجماهير الشعبية من السلع الأساسية.
4 – إخضاع المصرف المركزي لرقابة الحكومة المباشرة، فالسياسات النقدية يجب أن تتماشى مع المعالجات الاقتصادية للأوضاع الراهنة.
5 – وقف استيراد جميع السلع باستثناء المواد الأساسية لمعيشة المواطن ومستلزمات الإنتاج.
6 – مكافحة الهدر الحكومي.. والبذخ.. والفساد، بجميع أشكالهم وتجلياتهم.
أما بقية القطاعات.. والمشاريع.. والمقترحات.. الواردة في خطط الدولة.. وبياناتها، وتصريحات مسؤوليها، فيمكنها الانتظار حتى اندحار الإرهاب.. وانتهاء الأزمة.. . وهذا باختصار شديد ما يطلق عليه(اقتصاد الحرب.. اقتصاد الأزمات.. اقتصاد المجابهة.. الاقتصاد الداعم لمواجهة المتربصين بالوطن).
المراجع
1 – راجع (فؤاد لحام – الصناعة السورية.. الواقع.. الصعوبات.. الاقتراحات -جريدة النور العدد669).