يبحث في العلاقة الإشكالية بين قضايا التراث والحداثة كتاب عن الجابري «فيلسوف العقلانية الجديدة»

(التراث والحداثة في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري) هو عنوان الكتاب الصادر مؤخراً عن منشورات دار (التوحيدي) في الرباط، الذي ساهم فيه مجموعة من الباحثين والكتاب المغاربة والعرب، تحت إشراف وتقديم الكاتب المغربي الأكاديمي محمد الداهي.

يؤكد المشاركون في هذا الكتاب أن المفكر الراحل، هو فيلسوف العقلانية الجديدة في الفكر العربي، الذي نجح في إرساء مشروع فكري نهضوي تنويري ضخم، وبصم الساحة الثقافية والفكرية المغربية والعربية بأفكاره ومشاريعه العلمية المتميزة، التي سعت إلى تأصيل الفكر العربي، وتوطيد العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة، وفتحِ مجالٍ للتأمل والحوار حول هذا الفكر بين المغرب والمشرق، بل نقل بعضاً من أسئلته ومشاغله إلى آفاق عالمية.

ويأتي هذا الإصدار الجديد، بعد زهاء ثلاث سنوات من رحيل الجابري، الذي لا يزال يواصل حضوره الكبير في ساحة النقاش الفكري العربي، استحضاراً لاجتهاداته القيّمة في تدبير العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة، القطبين اللذين تمحور حولهما سؤال المشروع النهضوي العربي. وبغض النظر عن الجدل الكبير الذي صاحب اشتغال المفكر على قضايا التراث والحداثة، ومناهج مقاربة النصوص، وتفكيك عوائق الإقلاع الحضاري العربي، فإن المؤيدين والمعارضين يعترفون له بالقيمة المعرفية والاجتهادية لمشروعه الفكري، الذي كان من أشهر حلقات مشروعه لنقد العقل العربي، ومشروعه الأخير حول فهم القرآن الكريم.

أضواء على ركائز مشروعه الفكري

يتوزع هذا الكتاب، إلى تقديم للكاتب محمد الداهي بعنوان (قطوف دانية، وثلاثة أبواب كبرى هي: (مسارات وجبهات متعددة) و(الفاعلية الحضارية والثقافية للتراث) و(التناظر والتحاج). وكل باب مكون من خمسة فصول. وهكذا يشتمل الباب الأول على (جبهات ومعارك) لكمال عبد اللطيف، و(ما بين العقل وتعقل النقد أو رهان المتخيل عند الجابري) لمحمد نور الدين أفاية، و(نيتشه والجابري) لعبد الرزاق بلعقروز، و(محمد عابد الجابري وتصورات مهمة في فلسفة العلوم) لماهر عبد القادر محمد علي، و(صورة المفكر محمد عابد الجابري في طفولته وشبابه) لعبد المالك شهبون.

وفي هذا الباب، يخلص الباحث كمال عبد اللطيف – في بحثه – إلى أنه (عندما نجمع الحضور السياسي بالأكاديمي، بالتربوي، بالإشعاع والإنتاج المتواصل، الإنتاج الفكري المعد والمركب، بهدف أن يصبح في متناول الجميع، نعرف أن حضوره السياسي ظل قائماً، ونعرف أن خياراته التي أعلنها – وهو ينسحب من الحياة السياسية المباشرة – تعد اليوم في قلب أسئلة المشهد السياسي المغربي والعربي).

ويضم الباب الثاني (من أجل عصر تدوين عربي جديد) لمحمد المصباحي، و(التراث في فكر الجابري الإشكال والمنهج) لمحمد وقيدي، و(سياسة التراث) لعبد السلام بنعبد العالي، و(مفهوم القطيعة مع التراث في فكر الجابري) لعلي القاسمي، و(كيف نفهم القرآن الحكيم) لنور الدين الزاهي.

في حين يجمع الباب الثالث المعنون ب (التناظر والتحاج) مقالات: (محمد عابد الجابري وبروز المثقف النقدي في مغرب السبعينيات) لعثمان أشقرا، و(الحوار المعطل والنقد المعطوب) لإدريس جبري، و(في نقد القراءات المعاصرة للتراث) لعبد الغني بارة، و(محمد عابد الجابري وإعادة بناء القول الديني) ليحيى بن الوليد، و(استعادة الحاضر في المشروع الفلسفي عند الجابري) لعبد العزيز بومسهولي.  وكلها مقالات تستحضر أهم النقاشات التي دارت بين الجابري ومثقفين آخرين (عبد الله العروي، جورج طرابيشي، طه عبد الرحمن) حول مختلف ركائز مشروعه الفكري وأعمدته. وهو ما يبين جرأته الفكرية في إثارة قضايا جديدة ومستفزة، تفاعل معها البعض على نحو إيجابي، في حين حفزت آخرين على نقدها وبيان مواطن قصورها.

وفي تقديمه لهذا الكتاب يذكر الداهي، أن ما حفزه على إعداد كتاب جماعي عن الجابري، هو أن هذا الأخير ليس من طينة المثقفين الذين ينظرون إلى المجتمع من علٍ، أو من برج عاجي. وإنما اهتدى بقبس المثقف العضوي الذي يجمع بين العمل الفكري والنضال السياسي، لأنهما يشكلان في نظره، لبنة أساسية لدمقرطة المجتمع وتنميته ورقيه. كما أنه، كما قال الداهي، غالب الظروف الاجتماعية والتعليمية الصعبة لتحقيق مطامحه. وأعطى، بذلك، مثالاً عن عصامية فذة، فأضحى علماً متألقاً يشار إليه بالبنان.

وجاء في التقديم أيضاً، أن مختلف العوامل التي صنعت الشخصية الفكرية للجابري، أسعفته على بلورة رؤية فلسفية نقدية تتمرد على القيود والضغوط التي تكبح التغيير، وتكبل العقل، وتكرس تكلس الكيان العربي وجموده، وبالمقابل تدعم حرية الفكر، وتحتفظ بكل ما هو مشرق في التراث، وتستشرف آفاق المستقبل بأمل وإصرار.

ومن بين البواعث الأخرى، التي حفزت محمد الداهي على الاحتفاء بالمفكر الراحل محمد الجابري، مناهضته الدائمة لكل أشكال الحيف والظلم والاستبداد، ومناصرته لكل ما يسعف الشعوب العربية على نيل الحرية والكرامة والاستمتاع بثمارها، خاصة أنه كان من دعاة تأسيس (الكتلة التاريخية)، التي تجمع كل الأطياف السياسية التواقة إلى إحداث (انقلاب تاريخي) لمقاومة المستبدين والطغاة، وترسخ ثقافة المشاركة وتداول السلطة، وأخلاقية النقاش والنقد والمحاسبة، هذا ناهيك بأصالة فكره وتعدد جبهاته ومعاركه واجتهاداته، ودوره في توطين الدرس الفلسفي، وحسه الوطني والنضالي. وكذلك مقاومته مختلف أشكال الحيف والاستبداد، وفضله في تكوين أجيال من الطلبة، وتحريك سواكن التراث العربي الإسلامي وتجديده.

الجابري.. سيرة مفكر ومثقف عضوي

ولد محمد عابد الجابري في نهاية عام 1935 في مدينة (فكيك) شرقي المغرب، وارتقى في مسالك التعليم في بلده، حيث قضى 45 سنة مدرساً، ثم ناظر ثانوية، ثم مراقباً وموجهاً تربوياً لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذاً لمادة الفلسفة في الجامعة. حصل عام 1967 على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب التابعة لجامعة (محمد الخامس) بالرباط، وعمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها. وكان قيادياً بارزاً في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة، قبل أن يقدم استقالته من المسؤوليات الحزبية في نيسان/ أبريل ،1981 ويعتزل العمل السياسي ليتفرغ للإنتاج الفكري.

توفي في أيار/ مايٍو01028 عن عمر يناهز 75 سنة، وقد خلف عبر مساره الفكري العديد من المؤلفات، من بينها (نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) (1980)، (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي) (1971)، و(نقد العقل العربي) الذي صدر في ثلاثة أجزاء هي (تكوين العقل العربي)، و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي).

العدد 1140 - 22/01/2025