يومُ ا لجلاءٍ هو الدنيا وزهوتُها لنا ابتهاجٌ وللباغينَ إرغامُ
على الرغم من المحن والمآسي التي يعيشها أبناء الشعب السوري بسبب الحرب الظالمة التي تدور رحاها على أرض وطنهم الذي جبلت ذرات ترابه بدماء الشهداء منذ فجر التاريخ حتى اليوم، يحق لأبنائه أن يحتفلوا بالذكرى السابعة والستين للعيد الوطني الأول، عيد جلاء آخر جندي فرنسي في السابع عشر من نيسان من عام 1946.
تأتي ذكرى الجلاء والوطن مضرج بالدماء النازفة في كل أرجائه، ويد التخريب تعيث دماراً بمنشآته التي بنيت بعرق ملايين السوريين وكدحهم. وتخوض قواتنا المسلحة مواجهة في غير مكانها وزمانها، فهي معنية بالدفاع عن سلامة حدود الوطن من العدو الخارجي، ولكن ماذا إذا انقلب الخارج إلى الداخل، وراحت أيدي الخارج تمد عناصر الداخل بالمال والسلاح والمرتزقة، أفليست مهمة الجيش السوري الوطني، تكمن في تطهير الداخل أيضاً، والعمل على دحر المتسللين لتشويه نفوس أبنائه وربوعه!!
ما زالت معركة الجلاء مستمرة، والأجنبي القديم يجتاح الوطن بزي جديد، مستخدماً سلاحاً أكثر فتكاً وتدميراً، يعتمد على الجهل والتخلف في إيجاد حواضن اجتماعية له، هذه الحواضن التي تأصلت واتسعت واستشرت وقوي نفوذها بسبب تغييب القوى المجتمعية المدنية الفاعلة التي كانت قادرة على التصدي لها، ولأفكارها الغيبية وشعاراتها المضللة التي زرعت بذورها في بيئة جاهلة مشبعة بفكر غيبي ظلامي، ترعرع بسبب حالة من فراغ فكري وتحجيم للنشاط السياسي، وغياب للتعددية، وانعدام الديمقراطية.. التي يستخدمها البعض اليوم، -وهم يفتقدون إلى أبسط مقوماتها-، شعار حق يراد به باطل، معتقدين أن الشتائم والتهم وحرية القول كيفما كان هي الديمقراطية وهي الحرية.
الحرية والديمقراطية تزدهران وتنموان في مناخات من الوعي والمعرفة، وامتلاك أحدث منجزات العلم، والتحرر من الخرافة والأفكار الرجعية، والكف عن نشر الأحقاد، وإشاعة الفتن، ومواجهة انتشار الفساد، وغياب المحاسبة والمراقبة، وسيادة القانون على الجميع، دون استثناءات هنا وهناك. كل هذا لا يستقيم إلا مع إشاعة وتأصيل مفاهيم المواطنة الحقة وإعادة توزيع الثروة وضمان حقوق المواطنين في المساواة الكاملة والفعلية في المشاركة في الخيارات المصيرية لوطنهم.
وقف نزيف الدم ضرورة لا تعلو عليها ضرورة، وهي المقدمة لكل حل يستند إلى حوار خلاق ومثمر، وعمل دؤوب، للوصول إلى مصالحة وطنية، تستأصل الأحقاد والضغائن من القلوب، مرجعيتها توافق السوريين على سبل اجتثاث أسباب الأزمة، الداخلية منها والخارجية.
ما أحوجنا اليوم إلى تحرير النفوس، وإجلاء التخلف الحضاري، بإعلاء قيم العقلانية، وتطهير البيئات الحاضنة، مما علق بها من رواسب الماضي البغيض، ذلك الماضي الذي لا يمكن إعادته أو العودة إليه. فالزمن لا يسير إلى الوراء، ومستقبل سورية في خياراتها التقدمية القائمة على التعددية وحق الاختلاف وثقافة الحوار والتسامح، والمحافظة على وحدة النسيج الاجتماعي.
في كل المواجهات التي شهدتها سورية قبل الاستقلال وبعده، كانت الوحدة الوطنية الأرض الصلبة التي استندت إليها قوى المواجهة للمحافظة على الوطن السوري موحداً أرضاً وشعباً. وجعلها مركز إشعاع حضاري ومنارة لثقافة التسامح والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، على اختلاف لونياتهم ومذاهبهم، ودياناتهم.
استهداف هذه الوحدة يتطلب من كل مواطن سوري أن يعمل جاهداً على صيانتها، كل بحسب موقعه وإمكاناته، فليس الوقت الآن للتشفي وتسجيل المواقف، لأن مصلحة الوطن فوق الجميع، فلتتوحد كل الجهود الخيرة والبناءة من أجل المحافظة على الوحدة الوطنية، لأن فيها الخلاص من الأذية والانتقال بسورية إلى ما يليق بها من مكانة بين الأمم والشعوب.
تطهير البلاد واستقلال قرارها واحترام خيارات الشعب السوري، يحتاج إلى جرأة في المواجهة، وإعادة النظر في الممارسات السابقة، والتحلي بفكر نقدي لا يخشى من الاعتراف بالأخطاء، ويعمل على إصلاحها، فتشخيص المرض أولى خطوات العلاج.
لقد بات واضحاً من التجربة المرة، أن الحل الوحيد للأزمة هو التوافق السياسي، المعتمد على حوار وطني تجد فيه جميع القوى الاجتماعية والسياسية وجميع المكونات الإثنية مكاناً لها يسمح بإبداء آرائها بكامل الحرية والمسؤولية للعمل على إرساء أسس لبناء دولة مدنية تعددية ديمقراطية تصون وحدة الوطن وتحافظ على حرية المواطن، وتضمن أمنه وكرامته، وتحقق العدالة الاجتماعية المنشودة في وطن موحد، حر، سيد. عندذاك سنحتفل منشدين من جديد مع عمر أبي ريشة:
يا عروسَ المجدِ تيهي واسحبي
في مغانينا ذيولَ الشهبِ
لن ترَيْ حفنةَ رملٍ فوقها
لم تعطَّرْ بدما حرٍّ أبي
كمْ لنا من ميسلونٍ نفضتْ
عن جناحيها غبارَ التعبِ