الدكتور تيزيني يبحث في الظلامية والتنوير
في أحدث كتبه (الأصولية بين الظلامية والتنوير) يتصدى الدكتور طيب تيزيني لقضية تشغل حيزاً من الاهتمام في العصر الراهن الذي يشهد تعاظم وتائر التحولات العالمية، وتحديداً مع نشأة النظام العولمي الرأسمالي المتوحش بثورتيه: المعلوماتية والاتصالاتية، جنباً إلى جنب مع تفكك الاتحاد السوفييتي، إذ تبرز الاهتمامات الخارجية والداخلية بالإسلام وبالفكر الإسلامي، باتجاه سؤال: ما احتمالات ما هو قائم من أيديولوجيات ومواقف واتجاهات في الحقل العربي والإسلامي؟
في المحور الذي يتحدث عن الدين والمجتمع السياسي في العالم العربي يميز الباحث بين اتجاهين اثنين من اتجاهات متعددة في حياة النص الديني: واحد نشأ في ظروف سياثقافية واجتماعية تتسم بالرفاه المادي والنمو العقلي والتوازن السيااجتماعي، فظهر في عمومه تعبيراً عقلياً عن التوازن والاعتدال والتسامح بين الناس. واتجاه ثان نشأ وتبلور في ظروف من الخراب الاقتصادي واستباحة المؤسسات والكرامات وإخفاق الدولة في المهمات، فظهر في عمومه تعبيراً عن الاضطراب ومفعماً بالنزعة الثأرية الظلامية ومنطوياً بقوة على الوعود الخلاصية، ليصل إلى نتيجة هي أن الأصولية الدينية التكفيرية المهيمنة عربياً وإسلامياً، لم تبتدعها النظم الجائرة كلعبة سياسية إيديولوجية، ولا الخارج (العدو) وإنما نشأت في مجتمعها ذاته.
ثم يطرح سؤالاً حول وجود فكر ديني سياسي، ليجيب بأنه من المستحيل المنطقي أن يتآخى الديني مع السياسي، ولكن ضرورات المجتمعات والصراعات المنطلقة هنا تجعل ذلك التآخي ممكناً. ومن أهم تلك الضرورات الوصول إلى القول بتأسيس أحزاب سياسية دينية يكون تأكيد الدين فيها أشبه بجعل الصراع معها أو ضدها يبدو وكأنه صراع ضد المقدسات اللاهوتية الدينية.
وعن السياسة والإصلاح الديني يتحدث الدكتور تيزيني ناقلاً تساؤل البعض حول نقطة تندرج في إطار الملف السياسي في الإصلاح العربي وهو: إذا ما استعاد المجتمع العربي الفعل السياسي وتأسس نظام اقتصادي قائم على مبدأ العدل في توزيع الخيرات المادية على المواطنين فهل يمكن أن يسقط التشدد الديني في أوساط الفقراء والعاطلين عن العمل؟ وحسب اعتقاده يرى أهمية الوصول إلى أطروحة تنطلق من أن تجاوز النزعة الأصولية المتشددة والتكفيرية في الحقل الديني يشترط تجاوز الحامل الاقتصادي عبر حامل اقتصادي آخر يرتكز إلى مبدأ العدل في توزيع الثروة المجتمعية. ولكن في سياق القيام بإصلاح ديني تنويري. ومن الأهمية بمكان أن يكون الملف السياسي في مقدمة الملفات الإصلاحية في المجتمع العربي، فهو الملف الذي يؤسس للملفات الأخرى ولكنه لا ينوب عنها.
وحول مفهوم الوسطية في الإسلام يقول: إن الوسطية تتضح بمثابتها منهجاً يسعى إلى إقامة علاقة بين طرفين أو أكثر بهدف استنباط طرف آخر يكون بمثابة حصيلة تلك الأطراف كلها، وفي البحث عن الحامل الاجتماعي والثقافي والسياسي لمفهوم (الوسطية) يشير إلى أن الفئات الوسطى هي ذلك الحامل، وهي الفئات التي أرغمت على التفكك في معظم المجتمع العربي بفعل عملية الإفقار الاقتصادي والإذلال السياسي والإقصاء الثقافي، وهذا أدى إلى نتائج بنيوية خطيرة تمثلت في زعزعة العلاقات المجتمعية في السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والقضاء والقيم، وكان هذا أشبه بإنتاج حالة تطرفية ظلامية هي عكس الوسطية ونقيضها.
ثم يؤكد أن نشأة التطرف الديني في المجتمع العربي الراهن مرتبطة بتفتيت المشاريع الأربعة التي حملت لواءها الفئات الوسطى وهي: المشروع القومي، والليبرالي التحديثي، والاشتراكي، والديني المستنير غير المؤسسي، مع وجود الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي. فيما ينظر إلى الإشكالية المركزية للأصولية وفق فكرة أن البلدان العربية النفطية تأتي في مقدمة ما ينبغي أن يتحدد العمل فيها باتجاه إسلام سياسي نفطي تكفيري من منطلق الوظيفة المطلوبة تجاه الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، لتوظيف تلك الأصولية في خدمتها. مشيراً إلى التواطؤ بين الفريقين المذكورين، التي انفجرت مع أحداث الحادي عشر من أيلول بوصفها(حصان طروادة) جديد بصيغة أمريكية، تتمكن الولايات المتحدة عن طريقه من التدفق في العالم العربي الإسلامي. كما ينبه الباحث إلى علاقة خطيرة بين الأصولية والعولمة، فكلاهما يستفرد بالحقيقة حين يعلن أنه وحده يجسدها، الأول حين يتحدث عن معادلة تقوم على المؤمن والكافر، في حين تتحدث الثانية عن معادلة (المسالم والإرهابي).
وعبر العديد من المحاور التي تحيط بمسألة (الأصولية) يقدم الكاتب قراءاته حول خصوصية العلاقة بين التنوير الديمقراطي وبين الظلامية السلفية، ويبحث في الإسلام التنويري المحتمل بين الأحادية الإقصائية والتعددية المنفتحة، ليقدم النتيجة التي تقول:إن الشعار الذي طرحه إسلاميون أصوليون القائل بأن الإسلام هو الحل، يمثل عائقاً أمام التفكير العلمي الإبداعي الذي على الجميع أن يشتركوا في (استكشافه) وتحويله إلى آليات فاعلة في عملية مواجهة الحطام العربي والإسلامي. ويترتب على ذلك أن تصبح مهمات التغيير العربي، التي تحملها الفئات الشبابية والوحدات والطبقات الاجتماعية وغيرها، مهمات الجميع. أما هذا الجميع فيندرج في إطاره كل أطياف المجتمع المدني والسياسي من أقصى اليمين الوطني الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني الديمقراطي، دون استثناء إلا ممن يرفضه.
كما يتطرق الدكتور تيزيني للحديث حول الأزمة السورية في كتابه الذي ينوِّه في مقدمته بأن فصوله تنتمي إلى مرحلة ما قبل الثالث والعشرين من شهر آذار 2011. ورأى أن الكتاب يمثل إرهاصاً واستشرافاً به. فينوِّه بالمظاهرات (السلمية) ويشكك بنزاهة وشرف وكذلك القوى العقلية لكل من لا يشاركه الرأي فيما يحصل.
وهذا أيضاً يدعو للعودة إلى دراسة بواطن العنف في سورية في السلطة، وفي من يملك الثروة والبلد. وبما أني واحدة من الإعلاميين الذين فقدوا عقلهم وشرفهم – حسب رأيه – لا يكون أمامي سوى الاعتماد على عقل الباحث الذي أحترمه لألفت نظره نحو الخطاب الطائفي الذي كان بطل تلك (الثورة)، وأطلب رأيه بالفتاوى المصدرة إليها من الخارج، وخصوصاً من الشيخ القرضاوي الذي يعيب عليه تيزيني – ضمن الكتاب – فتوى قديمة حول تحريم تقديم التهاني للمسيحيين بأعيادهم! واصفاً الفتوى بأنها تتسم (بقليل من مظاهر العقلانية والاستنارة الإنسانية)! وهذا الوصف برأيي أشبه بحكم مخفف على جناية عقلية وأخلاقية كبيرة بنظر كل مواطن سوري عادي ممن يتشارك مع جيرانه الأعياد كما لو كانت عيده الخاص.
الأصولية بين الظلامية والتنوير، د. طيب تيزيني الدار السورية اللبنانية للنشر – دار جفرا للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2012.