المشاريع الصغيرة والمتوسطة.. العهدة للاقتصاد واستثناء هيئة التشغيل
أهملت الحكومات السورية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عن قصد وسابق تصميم، إذ مع الإقرار بضرورة هذه المشاريع، ومدى الحاجة الملحة إليها، يغدو عدم الاهتمام بها وإيجاد الإطار التشريعي لعملها جرماً اقتصادياً عمره يتجاوز العقود الثلاثة، فضلاً عن الخسائر الكبيرة التي تعرض لها اقتصادنا، نتيجة هذا التقصير غير المسوغ.
الحكومة الان بصدد، نقل ملف المشاريع الصغيرة والمتوسطة لوزارة الاقتصاد، وحسم الجدل والمناورات القائمة بين الوزارة وهيئة التشغيل وتنمية المشروعات، لجهة من يمتلك الإشراف على هذه المشاريع، إلا أن كل ما يجري رغم أنه يصب في إطار قوننة هذه المشاريع وتوحيد جهة الإشراف عليها، وتقديم الدعم إليها، فإنه لايرقى إلى الدور المرتقب لهذه المشاريع في الاقتصاد الوطني، ومساهمتها المهمة في التنمية، فمنذ سنوات تحاول عدد من الجهات سحب بساط الإشراف على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لكن جهة واحدة من هذه الجهات لم تتجاوز الخط الأحمر الوحيد، والعائق أمام تأسيس مثل هذه المشاريع، أو تطوير القائم منها، أي تقديم التمويل اللازم، من خلال وضع رؤية واضحة، تتضمن تحديد العلاقة بين الجهات الممولة والمشرفة على هذه المشاريع، على حد سواء، وتقف جميع الجهات في دائرة طباشير واحدة، وتتنازع فيما بينها، لتضع المشاريع الصغيرة والمتوسطة تحت سيطرتها، دون أن تقدم خطة وطنية بالمعنى الحقيقي للخطة، لحل مشكلات هذه المشاريع، ونقلها من الظل إلى العلن، وتشجيع أصحابها ومالكيها، للعمل وفق ضوابط قانونية.
يستند الاقتصاد الوطني إلى عدد كبير من هذه المشاريع، التي يطلق عليها اقتصاد الظل، الذي يسهم وفقاً لتقديرات سابقة بأكثر من 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويسجل على كل الحكومات السابقة المتعاقبة فشلها الذريع في نقل هذا الاقتصاد من الظل إلى العلن، إذ لم تتمكن من إقناع أصحاب هذه المشاريع في نقل نشاطهم الخفي إلى دائرة الضوء، فضلاً عن تغيير نمط الملكية العائلي الذي يندثر وغير القادر على التطور. ظل اقتصادنا محكوماً بعمل الذهنية العائلية، وكل المؤشرات الاقتصادية في جوهرها تكشف أن العمل الاقتصادي في سورية مرتبط بالعائلات، ولم يخرج من هذه العباءة الضيقة، رغم وجود محاولات جادة في هذا الإطار، ولو راجعنا أسماء الشركات الصناعية والتجارية لوجدنا بلا عناء أن الطابع العائلي مازال مسيطراً عليها، وأن الورثة من الجيل الثالث الآن يتحفزون لملء المقاعد الأولى في إدارات هذه الشركات، أي أن هذه المشاريع أمام مشكلة حقيقية، تتعلق بالاستمرارية، وتفتت الملكية، ومشكلات غيرها.
اكتسبت هيئة تنمية وتشغيل المشروعات وكوادرها خبرة لايمكن الاستهانة بها، في مجال عمل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وكانت هذه الهيئة أهم وأول هيئة وطنية ( هيئة مكافحة البطالة) التي تستهدف هذه النوع من المشاريع، وتسعى لتقديم قروض لتأسيسها عبر شباب يمتلكون أفكاراً إبداعية ومبتكرة، إلا أن الجهود الحكومية آنذاك، لاسيما حكومة محمد ناجي عطري، دفعت باتجاه منع الهيئة من تقديم التمويل، ووضعت العصي في دواليب الهيئة ومشاريعها وبرامجها، وقصرت نشاطها على عدد من البرامج أبرزها التدريب من أجل التشغيل المضمون، وخلق حالة من التوافق بين قطاع الأعمال وطالبي العمل، إذ وقعت العديد من الاتفاقيات في هذا المجال، هذا الكيان، أي هيئة التشغيل، يبدو أن الاتجاه الحكومي يستثنيها من الإشراف على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويبدد خبرة طويلة ومتراكمة لديها في مجال تأسيس هذه المشاريع، أو لجهة الإشراف عليها، بينما تبدو حظوظ وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية أكثر قوة في هذا الشأن، ما يثير التساؤل حول مدى جدية الحكومة في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة؟
لا يوجد ما يبشر، أو يطمئن، بأن الحكومة الحالية على الأقل، مهتمة بهذه المشاريع، ولديها رغبة حقيقية وجادة في تأسيس مشاريع صغيرة ومتوسطة يقوم على أساسها اقتصادات أهم الدول الصناعية، فوزارة الاقتصاد التي لم تفلح في معالجة أهم الملفات التي تدخل في صلب اهتمامها، ومنها إجازات الاستيراد وملف مؤسسة التجارة الخارجية، تحاول جذب المزيد من المشاريع إليها، دون أن تمتلك رؤية واضحة بهذا الخصوص، لكنها كعادة المؤسسات تبدأ من الصفر، وتنسف الخبرات والتراكم المعرفي، ورغم ذلك، لايهمنا كثيراً أي الجهات العامة ستتولى ملفاً شائكاً ومعقداً كالمشاريع الصغيرة والمتوسطة، سبقتنا كل الدول في دعمها ـ أي هذه المشاريع ـ وتبسيط الإجراءات أمامها، ما يهمنا شكل الدعم الذي سيقدم لها، والموقف منها، المشروط بتذليل الصعوبات والتحديات الماثلة أمامها.
يحتاج الاقتصاد الوطني أكثر من أي وقت مضى للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لاسيما في هذه المرحلة، ولايمكن تحقيق التنمية المنشودة بلا هذه المشاريع التي تشكل الكنز الحقيقي لاقتصادنا المتعب والمتهالك والمدمر، والذي بحاجة لقوى جبارة تعيد إليه الحياة، وربما تكون المشاريع الصغيرة والمتوسطة أفضل رهان للاقتصاد الوطني في المرحلة القادمة، لينهض من جديد، ويؤسس على أرضية سليمة، كل ذلك يتطلب دعماً لهذه المشاريع، ورعاية حقيقية، وقروضاً تشغيلية، لتمارس دوراً اقتصادياً وتنموياً واجتماعياً.