للعاقل عينان.. وللجاهل تجويفان
ثقب صغير في سفينة صغيرة كبيرة قد يؤدي إلى هلاكها وغرق ركابها، وشرارة ضئيلة ربما أحدثت حريقاً يصعب إخماده، فالشرر الخفي أشد خطراً، وأكثر ضرراً من النار الظاهرة.
هنالك أشياء تحدث في الحياة قليلها كثير، كالمرض، والنار والوجع والعداوة، والحقد والكراهية والخيانة.
وإن الحذر واجب، والحيطة لازمة، فالعقلاء يحفرون البئر قبل العطش، ويرفعون جدار النهر قبل أن يفيض ويغرق ما حوله من بشر وشجر، ينقون الحقول من الأشواك والحصى والحشرات قبل حرثها وزرعها، يضعون لبيوتهم أقفالاً من فولاذ لا من تنك، وأبواباً من حديد لا من خشب، فالاستعداد الجيد، والحذر الدائم، والحيطة المستمرة من إهمال الشرارات الصغيرة، والأمراض العابرة، كل ذلك يسبق تحقيق الأهداف الكبيرة، والأحلام الجميلة، مثلما يسبق الغيم المطر، والعجين الخبز، والزهر الثمر، ونور الفجر أشعة الشمس.
يقال: للعاقل عينان، وللجاهل تجويفان، العاقل يرى أبعد من أنفه بكثير، والجاهل قد لا يرى حتى أنفه القريب.
ومن أراد قتل الثعلب عليه أن يحمل السلاح الذي يردي الدب. الحيطة واجبة، والحذر مطلوب، فهي جزء من تفكير الحكيم وفلسفة الفيلسوف، وأداة من أدوات الطب وإن كنا لا نراها بين أيدي الأطباء.
يحكى أن قرية وادعة كانت تعيش بأمن وسلام، أهلها يحب بعضهم بعضاً، يتساعدون في مواسم حرث الأرض وزراعتها وحصادها.
وذات يوم شاهد بعض الأهالي مجموعة من الفئران تتجول في الحقول القريبة، ولأن تلك الفئران كانت مسالمة ولا تؤذي أحداً، فقد اطمأن السكان لها وقال بعضهم:
هذه الفئران غريبة حقاً، إنها بنات أصل وعز، فهي تذهب لتأكل من القرى المجاورة، وتأتي إلينا للتنزه، وقال آخر محذراً: لا تؤذوها يا جماعة، فهي ضيفة علينا، وللضيف حق، ونحن قوم نحترم الضيوف ونرفع من كرامتهم، ولا نسألهم عن غايتهم وأهدافهم وسبب زيارتهم إلا بعد شهر من نزولهم في مضاربنا، وخيامنا وبيوتنا.
وقبل أن ينتهي الشهر، والمدة المسموح فيها بالسؤال عن غاية الضيوف، شرعت الفئران ذات الشعر، والذيول العريضة بالتكاثر والتجمع، وبدأت تتطاول على بعض الأهالي وتعترض طريقهم، فطلب السكان من سكان القرى المجاورة مساعدتهم على التخلص من هذه الضيوف الثقيلة.
أرسل أهالي القرى المجاورة بعض القطط الكبيرة الشرسة التي راحت بدورها تهاجم الفئران وتأكلها.
ونظراً لكثرة الطعام، فقد ملت القطط لحوم الفئران، وأصبحت لا تكترث بها أو تهاجمها، فوجد أهل القرية من المناسب الاستعانة بالقطط الصغيرة لتربيتها وتدريبها حتى تكبر.
وريثما انتظروها حتى كبرت، واشتد عودها، وقويت مخالبها وأنيابها، وأصبحت قادرة على الصيد، كانت الفئران قد أتت على كل شيء.
وقد صدق من قال:
اتقِ شر من أحسنت إليه.
واحذر الكريم إذا أهنته، واللئيم إذا أكرمته، والأرعن إذا مازحته، والسافل إذا عاشرته.
وإذا كان لا بد من صحبة الناس، فأصحبهم كما تصحب النار:
خذ منفعتها، واحذر أن تحترق!