الكفاءات السورية.. الطاقات المستنزفة بين التهجير الطوعي والقسري (1من2)

يعدّ واقع الكفاءات العلمية من أهم المواضيع الرئيسية التي تتطلب دراسة مستمرة لجميع البلدان المتطورة والنامية ولكن الضرورة والخصوصية التي تتمتع بها البلدان النامية تفرضان هذه الدراسة، من حيث الحاجة الماسة إلى هذه الكفاءات من جهة، ومن حيث النهب المستمر لهذه الكفاءات من قبل الدول الغربية سواء عن طريق الترغيب أو الترهيب، من أجل حرمان بلدانهم الأصلية من مهاراتهم وخبراتهم وكفاءاتهم بالشكل الذي يعرقل إمكانية تحقيق التنمية المستقلة والمتوازنة، وكذلك الاستفادة منهم في استمرارية التفوق التنموي في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ذلك أنهم يستثمرونهم في حين أن بلدانهم الأصلية أنفقت المليارات من أجل إيصالهم إلى ما هم عليه من خبرة ومعرفة وسلوكية، وتؤدي هذه العملية إلى آثار سلبية كبيرة على التنمية بشكل عام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً، فهذه العملية انتقائية اصطفائية لذوي المهارات والكفاءات الفاعلة والقادرة على تطوير الاقتصاد وعلى تنمية الموارد البشرية، وبالتالي فإن هذه العملية تمثل هدراً كبيراً للموارد البشرية العالية الكفاءة.

 وتعرّف منظمة اليونسكو ظاهرة هجرة الكفاءات الدولية بأنها نوع شاذ من أنواع التبادل العلمي بين الدول يتميز بالتدفق في اتجاه واحد هو اتجاه الدول الأكثر تقدما من الدول الأقل تقدما وهو ما أطلق عليه البعض النقل العكسي للتكنولوجيا حيث أن هذه الظاهرة تمثل استلابا للفئة المتميزة والقادرة على تطوير الإنتاج والتي تعد أهم عناصر الإنتاج ألا وهو العنصر البشري بكل ما يحمله من معارف، ومهارات، وتقنيات، يتم توظيفها والاستفادة منها في معامل الدول المتقدمة ومراكز أبحاثها وجامعاتها ومدارسها، بما يساعد على تطوير التكنولوجيا القائمة في تلك الدول وحجب معظمها عن الدول الأقل تقدماً، هذا الأمر يؤدي إلى تكريس تخلف الدول الأقل نمواً وتحقيق منافع كبيرة للدول المتقدمة.

 ولكن يمكن أن نقول من المنطقي أن يندفع أي طرف لتحقيق مصالحه بالوسائل التي يراها مناسبة، ولكن على الطرف المتضرر أن يحاول المحافظة على كفاءاته، وتهيئة الظروف المناسبة لاستثمارها الاستثمار الصحيح. وقد ثبت بالمطلق عبر التراكم التاريخي والحضاري أن ثروات الأمم لا تقاس بالثروات الطبيعية التي وهبها الله للبلدان أو بالثروات المالية التي قد تتبخر في أية لحظة، وإنما ثروات الشعوب الحقيقية تكمن في مقدار ما تملكه من الموارد البشرية، ومقدار ما تستغله من هذه الموارد عن طريق التنشئة السليمة واستخدامها الاستخدام الصحيح، بتأمين جميع الظروف الصحية والصحيحة لهذه الموارد، ومعروف ما تتطلبه عمليات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية من توافر موارد بشرية مؤهلة ومدربة، وذلك من أجل تكوين ثروة بشرية قادرة على اكتشاف موارد مجتمعها، واستغلالها الاستغلال الأمثل لزيادة الإنتاج وتحصيل مستوى عالٍ من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للسكان.

وهناك معيار مهم عن كفاءة الموارد البشرية، وهو مقدار حجم الكفاءات والخبرات والعقول من حجم هذه الموارد، ومقدار التنوع في الاختصاصات التي تملكها هذه الكوادر سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفكرية، ومقدار الفراسة التي تملكها في استشفاف المستقبل ومقدار المرآة التي تجعلهم يقرؤون الواقع.

وبالنسبة للكفاءات السورية فإننا كنا قبل ما حصل في بلادنا كنا نتفاجأ عندما نسمع تبريرات تتعلق بنقص الكفاءات، أو نرى مؤتمرات لحل مشاكل يُندب لها خبراء أجانب، لأمور كثيرة منها:

إن السوريين أدرى بمشاكلهم وحلولها، فكيف نأتي مثلاً بباحث من دولة أمريكية ليعرض لنا كيف نحل مشكلة القطاع غير النظامي علماً أن تكوينه ومسبباته وانعكاساته في بلده غير التي يمر بها بلدنا؟ وهل اختفى من يستطيع دراسة هذه المشكلة ويبين أسبابها وانعكاساتها وكيفية التخفيف منها؟ وإن كان ذلك فهذه دراسة بحاجة إلى شهور عديدة، وإن الكفاءات السورية على المستوى المحلي أو الخارجي والمشهود لها بانضباطها وكفاءاتها وإخلاصها بالعمل منتشرة بكثرة في كل بقعة من بقاع الأرض، فعلى الرغم من نقص الإحصاءات، ولكن هناك دراسات تقول: إن ما بين خمسة آلاف وسبعة آلاف من الكفاءات العربية تهاجر سنوياً نحو الدول الغربية الصناعية، وإن 60% ممن درسوا في أمريكا في العقود الثلاثة الأخيرة لم يعودوا إلى بلدانهم وفي فرنسا تدل الإحصاءات على أن 50% ممن درسوا فيها لم يعودوا إلى بلدانهم. وحسب تقديرات ترجع إلى عام 1980 فإن نصف العلماء الحائزين على شهادات الدكتوراه في التخصصات العلمية سواء الطبية أو الهندسية هاجروا من الدول العربية، ولا يعمل في الدول العربية سوى اثنين من كل خمسة باحثين عرب، وفي سورية نزيف كبير في أعضاء الهيئة التدريسية، إذ وصلت نسبتهم في عام 2005 إلى 30% من إجمالي أعضاء الهيئة التدريسية، بصيغة الاستيداع والإعارة، وكذلك لا يعود من بين كل 100 موفد إلى الخارج سوى 20 موفداً، وهو ما يعتبر هدراً وخسارة للكفاءات العلمية الحالية والتي تعد للمستقبل في سورية.

 إن الكفاءات السورية المهاجرة كانت تساوي 2%من السكان عام 2001 و7%من إجمالي قوة العمل، و11% من إجمالي الكفاءات العربية المهاجرة، وهذا يعد خسارة كبيرة وهدراً خطيراً لموارد بشرية ذات كفاءات متميزة تحتاج إليها عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتفتقد للكثير من خبراتها، إضافة إلى الحاجة إليها لتأهيل الموارد البشرية الموجودة وتدريبها وتنميتها من أجل الاستفادة منها مستقبلاً في عملية التنمية، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي وخطير على عملية التنمية، وقد ورد في دراسة سابقة أن عدد المهاجرين السوريين بلغ عام 1990 نحو 690 ألف مهاجر، وتنامى هذا العدد ليبلغ أكثر من 924 ألفاً عام،2000 وتسارعت وتيرة الهجرة حسب المعطيات خلال سنوات 2000-2005 ليزيد العدد الإجمالي عن مليون و326 ألف مهاجر، بينما يُقدّر عدد المهاجرين السوريين عام 2010 نحو مليونين و205 آلاف، أي ما يزيد عن 10% من سكان سورية.

واستناداً إلى التقرير العربي عن المعرفة لعام 2009 فإن سورية تعدّ من البلدان الطاردة للكفاءات، فهي تحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية حسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة للبنك الدولي، بقيمة للمؤشر تعادل 2.3.

هذا حجم الكفاءات السورية التي تشكل نسبة لا بأس بها من ركائز التنمية في مختلف بلدان العالم، ونحن نعاني حسب ما يقال من نقص وندرة! وأصبح موضوع الكفاءات ومناقشته أهم بعدما حصل في بلادنا، وبعد حملات التصفيات والقتل والاستلاب والهروب لكفاءات كبيرة بمختلف المجالات الطبية والهندسية والأكاديمية والعسكرية والفنية وبمستويات مرتفعة، وبذلك نكون وصلنا إلى الفراغ والتهشم البنيوي نتيجة سوء استثمار الموارد وعدم المحافظة على الطاقات المبدعة، وعدم جذبهم، وكذلك نتيجة الفراغ والهشاشة وتقلّص دور الحكماء وسهولة الانقياد للكثيرين بمشاريع كان يجب أن تكون النوافذ والتحصينات أقوى سابقاً عبر تفعيل واستثمار الكفاءات والطاقات السورية واستخدامها بدلاً من تهجيرها وتطفيشها من قبل منظومات الفساد الساعية لتهشيم البنى وإشعال الجسد السوري وتدميره بما يتقاطع مع المشاريع الغربية الهادفة بشكل مستمر لعرقلة التنمية ومنع استقلاليتها واستمرارها، ولو اقتضى الموضوع افتعال الحروب، وقتل الكفاءات التي تبقى وتصبر من أجل وطنها. وهنا يتبادر السؤال التالي: لماذا يصبح الكثير من هذه الكفاءات مبدعين خارج بلادنا الغالية؟ وما الأسباب التي تجعلهم يغادرون؟ وماذا فعلنا من أجل مكافحة هذه الهجرة أو هذا الفقدان؟ وبالتالي هل نعاني من نقص أم سوء توظيف؟

 تعد الولايات المتحدة في العصر الحالي أكثر الدول استقطاباً للكفاءات بشكل عام والعربية بشكل خاص من حيث العدد، والأهم من ذلك النوعية المتميزة، ذلك أنها تعتبر كل شخص يكمل تعليمه في معاهدها وجامعاتها، ويعود إلى بلده الأصلي بمثابة هجرة عقول أمريكية ولا تتوانى عن ممارسة شتى الإغراءات المالية والمادية وحتى الترهيب أحياناً، ويقدر عدد الأطباء المهاجرين من الدول النامية الموجودين في الولايات المتحدة بــ 24000 طبيب، أما المهندسون فقد بلغ عددهم 8500 مهندس، كما أن العلماء المشتغلين بالعلوم الطبيعية بلغ عددهم (1575) عالماً.

 وإذا بحثنا في المصدر الرئيسي للعلماء والمهندسين والأطباء المهاجرين إلى الولايات المتحدة فقد كان على النحو التالي:

50 % من مصر، 15 % من العراق ولبنان، 5 % من سورية والأردن و4 % من فلسطين، والنسبة الباقية والبالغة (26 %) فهي من مختلف دول العالم.

 وتشير مصادر دبلوماسية في السفارة الأمريكية إلى أن عدد السوريين الذين يحصلون على التأشيرة وصل عام 2006 إلى 11300 شخص سنوياً، وأكدت السفيرة الكندية أن عدد المهاجرين السوريين إلى كندا يتراوح بين 50000 و 60000 شخص سنوياً، وأن عدد الأطباء السوريين في ألمانيا 18 ألفاً، وأغلب مشافي فرنسا تفيض بالأطباء السوريين، ولا نعرف حجم ما هجرته الأزمة الأخيرة.

فما هي الأسباب الحقيقية لهذا الفقدان سابقاً، وبالتالي النقص كما يدّعي البعض؟

 طبعاً هناك أسباب كثيرة وراء هجرة هذه الكفاءات، منها:

أولاً- عوامل الطرد:

 إن العوامل التي تؤدي إلى تفكير الشخص بالهجرة وعدم الرجوع إلى بلاده، والتي تتعلق بظروف بلاده تختلف من شخص إلى آخر، حسب طبيعة الفرد وتعليمه وتخصصه، وفيما يلي مجموعة من الأسباب المؤدية إلى هجرة الكفاءات العلمية والفنية:

1 – الأسباب الاجتماعية:

يؤدي تمسّك المجتمع بعادات وتقاليد متشددة تجاه أمور معينة نقيضة لما رآه المهاجر، أثناء دراسته، في المجتمع الجديد من حرية وعلاقات جديدة دوراً مهماً في بقاء الشخص المهاجر في الخارج، هارباً من قيود هذه العادات والتقاليد.

 ومن ناحية أخرى فإن أحد الأسباب هو بروز فئات اجتماعية ذات ثروات هائلة حصلت عليها بأساليب غير شرعية، أو عن طريق المضاربات وخاصة العقارية، أو عن طريق الفساد والرشوة، واستخدام هذه الثروات في تدعيم مواقع هذه الفئات في كل نواحي الحياة، على حساب شرائح كبيرة من العلماء وحملة الاختصاصات العلمية وأصحاب المهن وأصحاب الكفاءات العلمية المختلفة، هؤلاء الذين لديهم حساسية تجاه قيم العدالة المطلقة والمساواة. وكذلك تؤدي البطالة بكل أشكالها دوراً مهماً في دفع الكفاءات العلمية والفنية للهجرة.

2 – الأسباب الاقتصادية:

 ضعف الأجور في سورية بشكل عام، وكما ولاحظنا سابقاً لا يوجد لدينا سياسة للأجور تحقق العدالة القائمة على أساس الكفاءة والاختصاص، ولا تمييز لأصحاب الكفاءات من حيث المكافآت والحوافز، مما يؤدي إلى صعوبة في تأمين المستوى المعيشي اللائق.

 3 -الأسباب التعليمية:

 السياسات التعليمية غير الملتزمة بمخطط معين أدت إلى زيادة أعداد الخريجين بما لا يتوافق مع الخطط التنموية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك اعتماد هذه السياسات على مناهج لا تتناسب مع سوق العمل مما أدى إلى حدوث بطالة كبيرة حتى لأصحاب الشهادات العليا، إضافة إلى ضعف التخطيط فيما يتعلق بإرسال الكثير من الكوادر وفق اختصاصات لا تتناسب مع خطط التنمية وغير متوافرة فرص العمل في المرحلة الراهنة.

العدد 1140 - 22/01/2025