أنا الشعب

في ماهية علاقة الكاتب بالقراءة كفعل إدراكي  معرفي وثقافي جمالي، ما يغذي البحث عن مرجعيات التأسيس للإبداع بكل صوره وحالاته وفي مستويات التأثر والتأثير، المحاكاة والمفارقة بمعنى التجاوز والإصغاء للذات، ما يجعل تعبير (حمى مستمرة) أكثر من مجرد توصيف، ليكون دلالة متحركة في قلب معنى متغير، تلك هي حالة المبدع المصري الراحل إبراهيم أصلان (1935  2012) الذي كان يقرأ متجاوزاً في رحلة قراءته، كل ما يقع عليه بصره من أعمال لا سيما الأعمال المترجمة. ثمة توصية جعلته يكتفي بالقراءة لاعتقاده بأنها أفضل الأعمال، ليقرأ رواية (أنا الشعب)، لمحمد فريد أبو حديد، مؤثراً درساً لا يستنفد هو: (فن الاستبعاد)، أي الكتابة  كما يذهب أصلان  التي تستبعد كل ما هو ليس ضرورياً. في هذا الدرس البسيط تبدو كتابة المحو شأناً إبداعياً باذخاً، تارة يُعبَّر عنه بالحذف، وأخرى بالتكثيف أو الاختزال. وعند إبراهيم أصلان الذي قدم للمكتبة العربية وللذاكرة الإبداعية أعمالاً لا تنسى، ومنها: (الساعة الواحدة، عصفور على أسلاك الترولي، عصافير الليل، بحيرة المساء). لكن صاحب (مالك الحزين) التي غدت تحفة درامية  بصرية بعنوان (الكيت كات) والتي جسَّدت رؤيته البصرية على نحو لافت، فهو يرى في هذا السياق (أن الكتابة لا تقوم على أساس فكري، وإنما على الإحساس)، ويضيف: (ليست لديَّ معان أو رسائل كبرى أريد إيصالها إلى القارئ، لأنني أظن أن كل المعاني وصلت وانتهى زمانها، أسعى بما أعرف نحو أفق أبعد، وخصوصاً أنني أعتمد على عيني). فصاحب الذاكرة البصرية ذهب باهتمامه نحو الفنون البصرية، هل ذلك ما منح (الكيت كات) قيمة مضافة؟!

على الأرجح أن وعي المبدع لما يكتب، أي كيف يكتب كما يحب أن يقرأ، هو ما يأخذ الدلالة إلى متسع من الدلالات التي تتيح للقارئ أن يفكر لنفسه حينما يتلقى عملاً ما.

إذ لم تكن كتابته توسلاً لشهرة أو مال، على طريقة إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وسواهما.

ذهب إبراهيم أصلان إلى ما هو أبعد من ذلك  على أهمية المال بتحقيق الشرط الإنساني للمبدع  ذهب إلى أن يكون مختلفاً ليؤسس وعياً بالاختلاف، ليحرّر الكتاب الجميل  كما يقول  داخل كل إنسان، بسعيه وراءه.

وتحرير المعنى في ذلك (الكتاب الجميل)، سوف يتأتى بمثاليه، ليعزز فكرة الاستبعاد. وهذان المثالان يشبهان عمل الروائي، فالأول حينما يزيل البستاني كل الحشائش الضارة والأعشاب الضارة التي تعيق نمو نبتة، والثاني في مذهب النحات الفنان الذي يتعامل مع قطعة من الحجر وفق تصور ما لديه بما يتيح إمكان تحرير الشكل الكامن داخل الحجر.

أن تمحو إذن، هو أن تكتب من جديد وأن تبدع نصاً ما، عملاً ما على هيئة متخيلك الذي تحتمل أنه يشبه متخيل القارئ وطريقته في التفكير، وليذهب القارئ إلى أن يرى فضلاً عما يقرأ.

مرة قال له يحيى حقي جملة أعجبته كثيراً: (حتى تغني الوسيط الذي تعمل فيه وهو وسيط له إمكانات تعبيرية محدودة، لا بد أن تتعرف على الإمكانات التعبيرية الموجودة في وسائط أخرى)، ليقول إبراهيم أصلان: (في علاقتي باللغة أتعامل مع الكلمات كعناصر أولية، الكلمات هنا ليست مادة للقراءة لأنني أسعى نقيضاً لفعل القراءة، لأسلط الضوء بالكلمات على المشهد..

في مسعى أصلان  بناء للحياة وإحياء لحركتها، ذلك درس في الكتابة لا يقف عند أدبية الفنون إن جاز التعبير، بل يأتي خارج البلاغة ونمطيتها ليستدعي الروح في الكلمات والأشياء، فهي ما يبقى، حيوية للمعنى، وجمالية لا تستنفد، لا سيما ترى الأعمق. وبتعبير أصلان (المياه الجوفية للمجتمع)، لتعطي للعلاقات الإنسانية أكثر من أفق وذروة لعل تنوعها قد يعطي تفسيراً للفعاليات الأدبية السردية مثلاً عند كتابنا ومبدعينا، وفي جانب آخر، كما يرى الكاتب محمد شعير في انتباهه الحصيف لحركية إبداع إبراهيم أصلان وملفوظه الإبداعي وقضاياه، أن ثمة أسراراً لم تكتشف بعد، وبوصفه  أصلان  الأقرب إلى (الكتابة الجديدة) كتابة الصياد العاشق الذي يحتاج إلى صبر ومقدرة على (معرفة الغمزة الملائمة لجذب السنارة)!

فمن سيكتفي بعمل يراه الأفضل ويستبعد ما عداه، تلك أحجية جميلة في عالم يغص بسيل كثيف من أعمال يعتقد كثيرون أن بعضها هو الأفضل، لكنهم لا يكتفون بها، لعل مرآة حالهم ما قاله الشاعر ماياكوفسكي في أبياته الأخيرة: (ختم الحادث زورق الحب تحطم في تيار الحياة الجاري، فلا عليّ ولا لي مع الحياة، وما جدوى أن يستعرض المرء الآلام والتعاسات والإساءات المتبادلة.. كونوا سعداء!).

العدد 1140 - 22/01/2025