أسواق المال والتحكم بالاقتصاد العالمي

احتاج الاقتصاد العالمي، للشفاء من جراح الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929) وما سببته من تداعيات على الصعيد الاجتماعي وما خلفته من انهيار شامل لأسواق المال والبورصات العالمية، إلى اللجوء إلى أقسى علاج عرفته البشرية تفتقت عنه أذهان زعماء المال في أمريكا وأوربا، وهو تنشيط الصناعة العسكرية والنفخ في أبواق الحرب التي دفعت البشرية ثمنها خمسين مليوناً من الضحايا.

في قرية جميلة وادعة تدعى (بريتون وودز) في ولاية نيو هامبشاير، التقى، في شهر تموز من عام 1944 ، ممثلو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ووضعوا اتفاقية لاستقرار نظام النقد العالمي، التي ستلعب دوراً أساسياً في استقرار الأوضاع الاقتصادية في الدول الكبرى حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وتنص تلك الاتفاقية على الحفاظ على عملات هذه الدول ثابتة تجاه الدولار من ناحية، وتعهد المصرف المركزي الأمريكي بتحويل الدولار إلى ذهب عند الطلب من ناحية أخرى. ومارست تلك الدول رقابة مشددة على تداول العملات الأجنبية ،فلم يكن متاحاً تحويل مبالغ كبيرة إلى الخارج إلا بعد موافقة حكومية، وسارت الأمور على هذا المنوال، لكن شيئاً ما بدأ يلوح في الأفق… لقد ضاقت الأسواق… وازدادت الفوائض النقدية.. وجندت المصارف الكبرى والشركات الصناعية العملاقة كل إمكاناتها للخلاص من قيود (بريتون وودز)، وكان لها ما أرادت حين ألغت كل من الولايات المتحدة وألمانيا وكندا وسويسرا الرقابة على أسواق المال وتم تحريرها، وانهار نظام أسعار الصرف الثابتة، وحتى الدول الأكثر تشدداً في ممارسة الرقابة وجدت نفسها منساقة إلى إلغائها بفعل الضغوط الهائلة من قبل شركاتها الكبرى، بذريعة حرمانها في ظل الرقابة من الحصول على قروض بفوائد منخفضة من العالم الخارجي، فألغت بريطانيا قيودها في عام 1979 ولحقت بها اليابان بعد عام واحد، وهكذا أصبحت أسواق المال سيدة الموقف. (1)

لقد بدأ عصر التحكم… وبدا للجميع من حكام المصارف، والوزراء، وحتى للرؤساء أن هناك قوة خفية تحرك وتتحكم بمصائر الاقتصاد في دول العالم..مارد.. هم الذين أطلقوه لكنهم لن يستطيعوا بعد الآن السيطرة عليه.. إنهم المتاجرون (المضاربون) في الأسواق المالية الذين تسللوا عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وبيوتات الاستثمار المالي، وراحوا  يوجهون بحرية مطلقة سيلاً من الاستثمارات المالية قادرة على التحكم برفاهية دول بأكملها.. أو فقرها، دون رقابة أو قيود.

لقد كانت سوق فرانكفورت للسندات الحكومية الألمانية، وسوق لندن للأسهم البريطانية، وسوق شيكاغو للمعاملات الآجلة، كانت مستقلة ولا تخضع للمؤثرات الأجنبية حتى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، أما بعد ذلك فقد طرأ تغيير جذري، إذ أصبح كل سوق من هذه الأسواق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل أسواق المال في العالم ، ويمكن لكل مستثمر أو (مضارب) الاطلاع على مستوى الأسعار السائد في كل بورصات العالم وإجراء صفقات بيع وشراء، ستغير هي أيضاً هذه الأسعار، وعندما يصبح الاستثمار في سندات الدين الحكومي الأمريكي أقل عائداً يتحول هذا المضارب إلى الأسهم الأجنبية، وأصبح ممكناً على سبيل المثال ارتفاع سعر سندات الدين الألمانية حين يخفض المصرف المركزي السويسري سعر الفائدة على القروض التي يمنحها للمصارف في جنيف. ومنذ عام 1985  ارتفعت قيمة تداول العملات الأجنبية والأوراق المالية على المستوى العالمي إلى ما يزيد على عشرة أضعاف، وخلال يوم واحد تجري في يومنا هذا عمليات بيع للعملات الأجنبية بقيمة تبلغ في المتوسط (1,5) تريليون دولار حسب إحصائيات بنك التسويات الدولية، وتعادل هذه القيمة مجموع الناتج الوطني الإجمالي في ألمانيا، وبقيمة مساوية يجري تداول الأسهم وسندات الدين الحكومي. (2)

وفي مساعيهم لاقتناص الأرباح بسرعة خيالية، يستخدم قناصة أسواق المال عدة شبكات كومبيوتر تغطي العالم بأكمله، إنها شبكات بلغت حداً هائلاً من الشمولية، فمن الدولار إلى الين ومن ثم إلى الفرنك السويسري، من زبون في نيويورك إلى آخر في طوكيو أو باريس، وخلال ساعات معدودة تنتقل مليارات الدولارات من سوق إلى أخرى، وينتقل الزبائن من دولة إلى أخرى، وتبعاً لممارسة هؤلاء المتاجرين تنخفض أسهم…وترتفع أخرى، وتتغير أسعار فوائد المصارف في نيويورك، وتبقى ثابتة في هونكونغ..وهكذا أصبحت البلدان والحكومات رهينة ممارسات حفنة من كبار المضاربي،ن أمثال (جورج سوروش)، الذي وصفه (مهاتير محمد) بالمجرم الرئيسي في الأزمة التي تعرضت لها نمور آسيا عام 1997 وسواء كان هذا الوصف صحيحاً، أم لا فإن السياسات التي اتبعتها تلك الدول أدت إلى دخول المضاربين والوسطاء الماليين ومنهم بالطبع (سوروش)، الكارثة قد وقعت… وكدس المضاربون أرباحاً فلكية.. أما النمور فقد خسرت أنيابها. (3)

لم يبق لدى زعماء الدول سوى الشكوى واللوم، وهاهو جون ميجر، رئيس الوزراء البريطاني يعبر قائلاً : (لا يجوز ترك العمليات في أسواق المال تتم بسرعة وبحجم كبير بحيث لم تعد تخضع لرقابة الحكومات أو المؤسسات الدولية). (4)

ويدعمه في ذلك رئيس وزراء إيطاليا الأسبق لامبرتو ديني الذي كان محافظاً لمصرف بلاده المركزي: (يجب منع الأسواق من تقويض السياسة الاقتصادية لبلد بأكمله).

أما الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك فير ى أن القطاع المالي بأكمله مدعاة للاستنكار ويسمي المضاربين فيه (وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي). (5)

*********

المراجع

 

1- راجع (النظام الاقتصادي الدولي المعاصر) – د. حازم الببلاوي.

2 – راجع كتاب (فخ العولمة) – هانس بيتر مارتين و هارالد شومان.

3 – راجع (ما العولمة) -هيرست وطومسون.

4 – هيرالد تريبيون الدولية 3/4/1995.

5 – الإيكونوميست 7/10/1995.

العدد 1140 - 22/01/2025