استمرار نزيف الكوادر.. الحكومة تشجّعه ولا تراهم ثروة
بدّدت سورية ثروتها البشرية، اغتالتها على حين غرة، واقتنصت منها اللحظات السعيدة، وتركتها بلا خيارات، وبلا مستقبل واضح. هذا هو مشهد العمالة ما قبل الحرب الراهنة، التي تعد فترة السعادة المزعومة للكوادر البشرية، واللحظات التي كانت فيها هذه الكوادر مظلومة بحق، إذ كانت الجهات العامة تنعى قدرتها على استيعاب اليد العاملة الجديدة، ولا تستفيد من الكوادر الماهرة المشهود لها بذلك، وتنبذها في الوقت ذاته. وللأسف الشديد، لم يتغير هذا المشهد أثناء الحرب، ومازال مستمراً الظلم الذي عانت منه اليد العاملة، والتهميش الذي تعرضت له، وعدم الثقة الذي وسمها. إذاً، هو الواقع المرير ذاته، والمشهد المتخلف الذي صنعته الحكومات المتعاقبة عينه، عندما كان يُطلب من الكوادر أن تخلق المستحيل، وأن تصنع المعجزات، وأن تكتشف المُكتشف بصيغ جديدة.
توجد مشكلة في خروج مئات الآلاف من الكوادر إلى بلدان أخرى، ولنعد إلى التاريخ ونقرأ المشهد بهدوء. هل فقدت سورية خيرة كوادرها؟ لا، والسبب بسيط للغاية، إن البلاد التي عاملت يدها العاملة بطريقة غير لائقة، بحكم ذهنية نظامها الإداري، وعقلية مسؤوليها، عليها ألا تشعر بالندم. والبلاد التي شجع مسؤولوها الكوادر للبحث عن فرصة عمل في الخارج، من المفترض ألا تذرف الدموع عليهم، وألا تستمر في اتهام من تبقى من هذه الكوادر بعدم الفاعلية، وضعف الإنتاجية. هذا ليس جلداً للذات، ولا يعبر عن موقف يقتضي الاستمرار في هذا النهج. وحتى لا يُساء الفهم، أو الاصطياد بالمياه العكرة، نؤكد أن خسارة سورية في الحرب مزدوجة، وأكثرها إيلاماً هو الكوادر البشرية، وهو ما يصعب تعويضه لاحقاً، إذ لن ينفع وقتذاك ذرف الدموع.
في التاريخ القريب، من زمن الحكومات السابقة، لاسيما حكومة محمد ناجي عطري، عبر عدد من كبار المسؤولين عن حنقهم من الكوادر البشرية، وجاهروا بآراء مؤسفة، يستحقون عليها المحاسبة. ومنهم عطري والنائب الاقتصادي عبدالله الدردري ووزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ديالا الحج عارف، وغيرهم. إذ شكك هؤلاء بقدرات الكوادر السورية، متندرين من رغبة هذه الكوادر في الحصول على عمل في القطاع العام. ومارسوا شيئاً من الترهيب، ورسموا مستقبلاً أسود للوظيفة العامة.
وسمعنا منهم سخرية مثيرة حول طرائق تفكير خريجي الهندسة بالعمل في القطاع العام، دون أن يقدموا بدائل أخرى ومقترحات مهمة، لنحو 250 ألف قادم جديد سنوياً إلى سوق العمل، ولأكثر من مليون عاطل عن العمل. الآن نسب البطالة أعلى، وتصل إلى مستويات مخيفة، والشكوى من مغادرة اليد العاملة تزداد، ومنسوب التخوف يرتفع. إنها أشبه بأحجية حكومية، ومواقف غير مكتملة، وآراء غير متبلورة. لنفترض أن الحكومة لديها من الجرأة ما يكفي لتكشف عن أعداد الموظفين الذين فصلتهم من العمل، وتضع النقاط على الحروف، من أجل من بقي من العمال. تشير تقديرات غير رسمية، أن أكثر من 35% من الموظفين مفصولين، هذا في أحد أوجهه يشكل خلاصاً للحكومة من العبء الثقيل الناتج عن تضخم الجهاز الإداري الموجود قبيل الحرب، والبالغ 2,4 مليون عامل، لأن الحكومات كانت تنظر إلى الكوادر ككتلة بشرية صماء، دون أن تحاول الاستفادة منها كقوى عاملة. ومع ذلك، فشلت الحكومة الحالية في سد النقص الحاصل بالكوادر، ومع أن أكثر من ثلث عدد العاملين غادروا، إلا أن نسب البطالة في ارتفاع واضح، فيما كل المشروعات التي اعتمدتها الحكومة لمعالجة هذه القضية، برنامج تشغيل الشباب أنموذجاً، لم تسهم في معالجة القضية جذرياً.
تمضي الحكومة قدماً، باتخاذ إجراءات لا تؤدي إلى ترسيخ بيئة عمل مناسبة، ومعظم قراراتها تصيب من العاملين أو الراغبين بالعمل مقتلاً. إذ يستمر المناخ الوظيفي السائد سابقاً، ومنها أمراض الإدارة المتعدّدة، لاسيما الروتين والفساد، إضافة إلى تراجع الإنتاجية. فلماذا تستمر الحكومة في إجراءاتها المحفزة لهروب اليد العاملة؟
تعد سورية من البلدان القليلة في العالم التي تصدّر اليد العاملة، ورغم غياب الإحصاءات الرسمية، من الواضح أن بلادنا بفعل طرائق إدارة الحكومات لهذا الملف الخطير، كانت تفضل هجرة الشباب على تمسكهم بالعمل في وطنهم، وخلقت بيئة نابذة للإبداع والتميز، وأسست لما يسمى فتح الأبواب أمام الراغبين بالهجرة. والأمر ذاته حدث خلال الأزمة الراهنة، إذ لم تقدم الحكومة ما يشجع الكوادر على البقاء، إنما فعلت العكس تماماً. ولهذا فإن الخسارة مزدوجة، إذ تنفق مئات مليارات الليرات سنوياً على التعليم، والتأهيل والتدريب، وكل هذا على أهميته يذهب سدى، مادامت القيمة المُضافة المتوقعة غير محققة.
ظلت سورية تعلّم أبناءها، وتدفع بهم إلى الهجرة، أو العمل في الخارج، إنه استثمار بلا طائل، رغم الفائدة القليلة المحققة من التحويلات المالية للعمالة في الخارج. ماذا تريد الحكومة من عامل دخله لا يكفيه، ولا يوجد ما يلوح في الأفق على تحسن متوقع في هذا الشأن؟ ينفق عدد كبير من المسؤولين، بشكل ترفي، بينما غالبية العاملين تعيش في الفقر. كما تدفع الفوارق الطبقية التي خلقتها الحرب في البلاد، إلى البحث عن البديل الخارجي الذي يرى في الكوادر ثروة، وفي مهاراتها فرصة استثمارية، وفي جديتها قيمة مضافة، بينما يصر المسؤولون على نهج الحكومات المتعاقبة ومواقفها غير الجيدة إزاء العمالة. ومن أكثر القطاعات خسارة للكوادر هي الصناعة، والبرمجيات والتقنيات، هؤلاء يصعب تعويضهم، فيما هناك مهن تراثية ويدوية كان لها حضور قوي في الأسواق باتت مهددة بالانقراض. ألا ترى الحكومة أن تقصيرها في تلبية احتياجات مدينة الشيخ نجار الصناعية بحلب، سبباً كافياً، لعدم إقلاع المنشآت؟ كل المؤشرات تبين أن الصناعيين مستعدون للعمل، فيما الحكومة لا تؤمن لهم المطلوب، وبالتالي لن تبقى الكوادر تنتظر اجتماعات الحكومة، التي تبحث في قضايا ثانوية وتترك الجوهري. تعرضت العمالة في سورية للظلم، بأجرها، ونظرة الحكومة إليها، وعدم تلبية الحد الأدنى من مطالبها، وسيبقى هذا النزيف الخطير مستمراً، مادامت حكوماتنا تتخذ كل الإجراءات المحبطة للعمالة، ولا ترى في الكوادر ثروة، وتتعامل معها على أنها عبء اقتصادي.